المترجم السوري معاوية عبد المجيد: الترجمة فرصة للتعرف على ثقافة الآخر لكنها ابتليت بمفاهيم جوفاء

المترجم السوري المقيم في فرنسا معاوية عبد المجيد حصل عام 2018 على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي التشجيعية (الجزيرة)

باريس – يعد المترجم السوري المقيم بفرنسا معاوية عبد المجيد من أغزر أبناء جيله إنتاجا ونشاطا وترجمة، ورغم صغر سنه (مواليد 1985) فقد نحت اسمه بثبات وتميز في عالم الترجمة، وهو ما أهله للحصول عام 2018 على الجائزة الدولية "جيراردو دا كريمونا" (Gerardo da Cremona) لتعزيز دور الترجمة في البحر المتوسط، كما حاز في نفس السنة على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي التشجيعية.

درس عبد المجيد الأدب الإيطالي في جامعة "سيينا" (Siena) للأجانب في إيطاليا، وحصل على درجة الماجستير في الثقافة الأدبية الأوروبية عن قسم الترجمة الأدبية من جامعة "ألما ماتر" (Alma Mater) في مدينة بولونيا الإيطالية وجامعة "الألزاس" (Alsace) العليا في مدينة مولوز الفرنسية.

ويتخصص عبد المجيد في ترجمة الأدبين الإيطالي والإسباني الذي ترجم عنهما الكثير من الروائع الأدبية. كترجمته المتميزة عن اللغة الإسبانية لرباعية "مقبرة الكتب المنسية" للكاتب الإسباني كارلوس زافون، وهي "ظل الريح" و"لعبة الملاك" و"سجين السماء" و"متاهة الروح" والتي صدرت عن دار الجمل للنشر.

ترجم عبد المجيد أخيرا عن الإيطالية رواية "الرسائل الأخيرة لياكوبو أورتيس" للكاتب الإيطالي أوغو فوسكولو والتي صدرت عن منشورات التكوين. وصدرت له قبل ذلك عن دار الكتاب الجديد رائعة الكاتب الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو "الشعلة الخفية للملكة لوانا". وصدرت له منذ أيام عن دار روايات ترجمة رواية "حياة عنيفة" للكاتب والسينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني.

عن ترجماته الأخيرة وخصوصية مشروعه في الترجمة كان للجزيرة نت هذا الحوار الخاص مع المترجم معاوية عبد المجيد الذي انفتح على قضايا فكرية ومعرفية أخرى تخوض في الراهن الثقافي العربي. فإلى الحوار:

  • تدور رواية "الشعلة الخفية للملكة لوانا" للكاتب الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو- والتي ترجمتها أخيرا عن الإيطالية- عن زمن ما بعد الحداثة، وتنفتح في رحلة لا تنتهي على موضوع الذاكرة وفقدانها واستعادتها، فما الآليات والتقنيات الفنية التي استعملتها في نقل هذا النص الصعب إلى الثقافة العربية؟

بداية، عزمت على أن تأتي هذه الرواية في سياق ما ترجمه المترجمون العرب قبلي لأمبرتو إيكو عن الإيطالية، وخاصة الجانب الروائي. فنحن نعلم أن الأستاذ أحمد الصمعي ترجم روايته الأشهر "اسم الوردة" والأعقد "مقبرة براغ"، وأن الدكتورة أماني فوزي حبشي ترجمت روايته الأصعب "بندول فوكو"، فكان على "الشعلة الخفية للملكة لوانا" أن تندرج في هذا الإطار الترجماني المعتمد، والذي اعتاده القراء العرب، من جهة الحفاظ على السلاسة الإنشائية، التي يسعى إيكو من خلالها إلى تمرير فكره الذي يستعصي أحيانا على كثير من المتابعين.

وبناء على ذلك، كان من الواجب علي أن أخصص ما يشبه القاموس لكل فصل من فصول الرواية، حيث يجد القارئ ضالته حيال مصطلح فلسفي أو حدث تاريخي يذكره إيكو في ثنايا السرد. واستأنست بالترجمة الإنجليزية والترجمة الفرنسية لهذا العمل، لا سيما إزاء الصعوبات اللغوية.

رواية "لعبة الملاك" تدور أحداثها في برشلونة قبل عقدين من اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية (الجزيرة)
  • لو تعطي القارئ العربي فكرة صغيرة عن المناخات الفكرية والتخيلية والسردية والثقافية التي تتحرك فيها هذه الرواية؟

الرواية مبنية على رجل يبيع الكتب القديمة والنادرة وقد تعرض لحادث سير أفقده ذاكرته الاجتماعية، فينبغي له الاعتماد على ذاكرته الورقية لإعادة بناء شخصيته بغية فهمها، وفهم هويته.

في كل رواية من رواياته يعرض إيكو سؤالا محوريا، وفي الشعلة الخفية كانت أسئلته "من أنا؟ كيف تشكلت هويتي؟ ولماذا الآن؟" وهكذا يصطدم بطل الرواية بالتاريخ والجغرافيا والفنون والفلسفة والدين.. إلخ، محاولا أن يستشف منها ما يساعده على تكوين نفسه أو ترميم ذاته بالأحرى. هنا يتضح أثر الطفولة ودور الذاكرة بالنسبة إلى إيكو، ما يجعله يفيد من تقنية السيرة الذاتية أيضا.

ونحن العرب في حاجة إلى ازدهار مثل هذا النوع من السرد الذي يعيننا على محاولة الإجابة عن السؤال الأهم "لماذا وصلت بنا الحال إلى هذا الدرك الأسفل من الانهيار وتشظي الذات؟ من أين علينا أن نبدأ المحاكمة العقلانية لكل أخطائنا التاريخية التي أوصلتنا إلى هذا الحاضر الرديء الذي لا يبشر بمستقبل أفضل على الإطلاق؟".

أذكر أنني حين قرأت الشعلة الخفية للمرة الأولى، تذكرت كثيرا من التقاطعات بينها وبين العالم العربي، لا سيما موضوعة تكريس العنف في المدارس عن طريق التربية. ربما استطاع إيكو أن يقدم إجابة منطقية عن السؤال الذي يخصه ويخص ثقافته، وربما نستطيع أن نحتذي به لتكوين سؤالنا الخاص بنا. أرجو ذلك.

  • ترجمت أخيرا عن الإيطالية رواية "الرسائل الأخيرة لياكوبو أورتيس"، للكاتب الإيطالي أوغو فوسكولو، وتعبر الرواية عن لحظة مفصلية في تاريخ الأمة الإيطالية، حيث كانت إيطاليا منقسمة إلى إمارات صغيرة تتنازع فيما بينها وتتنازعها مطامع الإمبراطوريات الأوروبية الأخرى، فهل ترجمة هذه الرواية الثورية التي تتقاطع أحداثها ومواضيعها بشكل كبير مع الواقع العربي اليوم ولحظة سعيه للخلاص وتحرره داخليا وخارجيا، مقصودة وعن وعي من المترجم والناشر، أم هي مجرد مصادفة أدبية لا غير؟

كانت ترجمة هذه الرواية بالتحديد في هذه الآونة مقصودة 100%، ولم تكن مجرد مصادفة، وقد ترجمتها عن وعي، ولا أدري إن كان الناشر يعي ذلك فالإجابة عن هذا تخصه.

أما فيما يخصني، فأؤكد لك ذلك. خذ مثلا هذه العبارة الواردة في الرواية "ما الذي ترجوه من أمتين عظيمتين قاهرتين، فاتكتين، عدوين لدودين أبديين، لا تتحدان إلا لإخضاعنا؟ وحيث لا تنفع معهما القوة، تغرينا الأولى بوعود الحرية، وتبتزنا الأخرى بالتعصب الديني؛ ونحن وقد هتك بنا الضيم المتجذر والغوغاء الراهنة، نركع عبيدا أذلاء، تقهرنا الخيانة وينهكنا الجوع، فلا تؤلبنا الخيانة ولا يحرضنا الجوع".

كما أن شعورنا بالغدر من القوى العظمى التي شجعتنا ثم خذلتنا شبيه بشعور أوغو فوسكولو، أو ياكوبوأورتس.

إن العصر الذي يعيش فيه المترجم هو المترجم. ومن المتفق عليه أن الترجمة هي الفرصة السانحة للتعرف على ثقافة الغير، وما عايشه من ظروف تاريخية مفصلية، ومن الطبيعي أن يأمل المترجم أن يطلع القراء على عمل بعينه، خصوصا إذا كان تاريخيا، أو مكتوبا في زمن فائت، بهدف المقارنة بين الأوضاع السياسية لكل من الثقافتين.

لكن المترجم لا يضمن أن يخرج العرب بالنتائج نفسها التي خرج بها الإيطاليون، ولا يضمن أن يفيد القراء من الدرس التاريخي، على أنه يضمن بالتأكيد إدراك العلاقة بين الأدب والسياسة، أو بين الناتج الأدبي والثقافي واللحظة السياسية الراهنة التي تخلقه.

ومن جهة أخرى، أؤكد أنني اخترت هذه الرواية لتعريف القراء العرب بأديب إيطالي كبير وقامة إيطالية راسخة، فالحركة الرومانسية الإيطالية شبه غائبة في مكتبتنا العربية، ولا شك أن أوغو فوسكولو من أبرز روادها. هكذا تكون الفائدة مزدوجة؛ تتعرف على كاتب إيطالي مؤثر، وتتعرف على مرحلة تاريخية إيطالية تشبه إلى حد كبير ما نمر فيه حاليا.

  • صدرت لك منذ أيام ترجمة رواية "حياة عنيفة" للكاتب والسينمائي بيير باولو بازوليني، هل يمكن أن تعطي القارئ العربي فكرة عن خصائص هذه الرواية والمناخات الفنية والفكرية التي تتحرك فيها، خاصة ونحن أمام شاعر وسينمائي متميز مثل بازوليني؟

مع بازوليني، نحن بصدد مرحلة تاريخية وأدبية مختلفة؛ الواقعية الجديدة التي برزت في أعقاب سقوط النظام الفاشي، بحيث جاء التركيز على السؤال التالي "ماذا بعد؟ ماذا سنفعل بهذا العدد الهائل من الجوعى والفقراء والمشردين؟" شمر بازوليني عن ساعديه وراح يتوغل في المساكن العشوائية وأكواخ الصفيح في ضواحي روما لينقل لأبناء جلدته الصورة الحقيقية لبؤساء روما وحياتهم اليومية والأسباب التي تقود شبانهم إلى الانحراف والجريمة والسرقة، ولكن وهو الأهم كيفية نضوج هؤلاء وخروجهم من ذلك المستنقع الذي يعيشون فيه.

رواية "حياة عنيفة" للكاتب والمخرج السينمائي الشهير بيير باولو بازوليني ترجمها عبد المجيد للعربية (الجزيرة)

الرواية واقعية بطبيعة الحال، تصور ما تراه عين الكاتب، ولا تسعى إلى صوغ نهاية سعيدة. المناخ السائد فيها هو الوحل والطين والقمامة؛ الوضع المزري الذي يتمرغ فيه سكان الصفيح رمزيا، والتوصيف الواقعي لما يعيشونه حرفيا.

أما ما الذي ستضيفه هذه الرواية للمكتبة العربية، فهذا لا يمكن التنبؤ به، حسبي أني عرّفت القراء على جانب من شخصية بازوليني وهو الجانب الروائي، ولعلها تكون مرجعا للمهتمين بفكر بازوليني وكل من يرغب في كتابة رواية واقعية، أو على الأقل كيف يرى بازوليني العالم.

لا أخفيك أن في الرواية توحشا لغويا مقصودا، ووعورة أدبية متعمدة، والرواية مهمة ومكرسة في المرجعيات الروائية الإيطالية المعاصرة، وقد تأهلت إلى نهائيات لوستريغا عام 1959 الجائزة المرموقة للرواية الإيطالية.

رواية "ظل الريح" للمؤلف كارلوس زافون صدرت بالإسبانية عام 2001 وترجمة لأكثر من 50 لغة (الجزيرة)
  • تقول في تقديمك لرواية "الشعلة الخفية للملكة لوانا"، أحاول أن "أوفر على القارئ مشقة مطاردة المعاني والمفاهيم كي أحتفظ بمتعة المشقة لنفسي… ومنعا لقطع سلاسة القراءة، والتشويش على القارئ وإيقاظه من سكرته". فهل نستطيع الحديث عن "لحظة المكابدة البحثية" في الترجمة، كما نتحدث عن "لحظة المكاشفة الشعرية"؟ حدثنا عن اللحظات الحميمية واستحضار أرواح المعاني البعيدة والمعاجم الخفية والسياقات التاريخية، من أجل أن ينتشي القارئ في الأخير بترجمة فريدة ومتميزة وخلاقة

بصراحة، لا أحب أن أتعامل مع الترجمة بهذه الرومانسية، بل أرى أن الترجمة ابتليت بمفاهيم جوفاء ينبغي التخلص منها، كالترجمة خيانة ذهبية والمترجم جسر ونقل روح النص وإلى ما هنالك. إنما أرى القراءة لحظة نشوة فريدة من نوعها، وأعمل على عدم تشويش هذه اللحظة وعدم قطع سلاستها.

هذا لا يعني أنني أجمل النص، بل أنقله بما يحتويه من تعقيدات، نحن نتحدث عن سلاسة القراءة بحد ذاتها؛ كيفية فعل القراءة بحد ذاته. أما بخصوص لحظة المكابدة البحثية، فحدث ولا حرج.

الشغف بالترجمة، والحرص على الإلمام بكل معنى وكلمة وحرف في النص، فضلا عن أن هذا هو العمل الذي أعيش منه، كل ما سبق إنما يولد مخاوف وهواجس نعيشها لحظة بلحظة تتفاقم وتستمر حتى بعد إنجاز العمل وطباعته وقراءته وانتظار ردود الأفعال عليه.

يندمج كل هذا بعضه ببعض لينعكس على لحظات المشقة التي نعانيها في الاستكشاف المضني ومطاردة الكلمات والمعاني على شبكة الإنترنت، ثم التوجه إلى المكتبة العامة للبحث عن مراجع ورقية في بعض الأحيان، أو الاتصال بأصدقاء إيطاليين لنسألهم ما الذي تعنيه لك هذه العبارة؟ ثم العودة إلى نظريات الترجمة التي درسناها وتطبيقاتها التي تعرفنا عليها، إضافة إلى التزود الدائم من النقد الأدبي والاطلاع على جديده وأصيله.

ثم إذا استخدم الكاتب كلمة مندثرة نفكر بمرادف مندثر بلغتنا العربية، فهل نحييه أم نتركه مندثرا؟ هل سيفهم القارئ أننا استخدمنا هذه الكلمة عمدا أم إنه سيتهمنا بالحذلقة والمبالغة والتعريب؟ هل سيثمن القارئ هذه اللفتة من المترجم (ملاحظة أسفل الصفحة، أو تكثيف بلاغي رفيع المستوى) أم أن حظها العاثر ستجعلها تمر أمام القارئ في اللحظة التي يتثاءب فيها على سريره ليستعد للنوم؟ كل هذه الهواجس تذكرنا بساعات الليل الذي سهرناه والاستيقاظ من الصباح الباكر لاستئناف العمل، وهكذا دواليك.

  • كشف فوز الروائي التنزاني "عبد الرزاق قرنة" بجائزة نوبل للآداب عن الفجوة الكبيرة التي يعيشها العرب بينهم وبين الآداب والثقافات واللغات العالمية الأخرى، باعتبار أن هذا الكاتب الذي يكتب باللغة الإنجليزية، غير مترجم للغة الضاد، فأين يكمن الخلل؟ وما الحلول لردم هذه الهوة التي تفصلنا كعرب عن مسايرة ركب الحضارات المتقدمة؟

من الصعب جدا أن نترجم كل شيء، خصوصا أن أعمال قرنة ليست مشهورة وحاضرة بقوة حتى في اللغة الفرنسية مثلا. إلا أن الحل موجود ويبدو أنه ليس مستحيلا؛ فلنقدر عدد الطلاب المتخرجين من كليات الآداب في العالم العربي كله، وأعداد المهتمين بالترجمة، بإمكانهم أن يدخلوا هذا المضمار لإثراء المكتبة العربية، وحبذا لو ركزوا على لغات بعيدة، وتشعبوا في اهتماماتهم.

من جهة أخرى يجب أن تتاح الفرصة لناشرين متحمسين لافتتاح دور نشر خاصة، قد تستمد الدعم والتمويل من الدولة، أو من جهات أخرى، شرط ألا تسيطر الدولة بالمفهوم البيروقراطي على تطور مجال النشر، فهذا يعيق حركة الترجمة ويبطئ عملية النقل إلى العربية.

  • كيف عشت الثورة السورية وثورات الربيع العربي من منفاك الأوروبي؟ وهل أنت متفائل بمستقبل هذه الثورات في ظل الانقلابات والتجاذبات التي تتنازعها داخليا وخارجيا؟

في البداية كنت متفائلا لكن الثورات العربية غرقت بالتفاصيل ورضخت للتجاذبات. بعض الثورات أصابها الجمود، وبعضها الآخر لم ينتهز اللحظة التاريخية، لكن شيئا ما سيتحرك ذات يوم، لا يمكن لعجلة التاريخ إلا أن تتقدم وأن تجاري الرؤية السائدة للحاضر.

المصدر : الجزيرة