هل يستلهم حلف الناتو خططه من أفكار الفلاسفة الغربيين؟

NATO's enhanced Forward Presence (eFP) in Estonia
رغم أنه من المستحيل ربط أي إستراتيجية خاصة للناتو بفيلسوف معين، فإن هناك فلاسفة غربيين يشار إليهم باعتبارهم ملهمين للقادة السياسيين (رويترز)

على مدى الشهور القليلة الماضية كتب كثيرون عن مبررات فكرية وثقافية وحتى دينية قد تشكل عوامل محتملة للحرب الروسية على أوكرانيا، إضافة إلى الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية المعروفة.

وعادة ما يشار إلى الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين وفلاسفة آخرين بينهم اللاهوتي المولود في كييف نيقولا بيرديائيف (1874-1948)، وعالم الأعراق السوفياتي ليف غوميليوف (1912-1992)، والمنظّر الأيديولوجي إيفان إيليين (1883-1954) باعتبارهم ملهمين محتملين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وعلى الجانب الآخر من الجبهة، يتساءل البعض هل هناك من المفكرين والمثقفين والفلاسفة الغربيين من أوحوا لقادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بفكرة التمدد حتى حدود روسيا؟ وهل كان هناك مفكرون وراء خطط الحلف الغربي التي مهدت الطريق لنشوب صراع في أوكرانيا أودى بحياة الآلاف وشرد الملايين وأثار احتمال اندلاع حرب نووية؟

سؤالان لاثنين من الكُتاب الأوروبيين حاولا الإجابة عنه في مقال نشره موقع الجزيرة الإنجليزية.

عقلانية الغرب

قبل الاستغراق في الإجابة عن السؤالين، يستدرك كل من سانتياغو زابالا أستاذ الفلسفة بجامعة بومبيو فابرا في برشلونة الإسبانية، وكلاوديو غالو رئيس قسم الأخبار الخارجية السابق بصحيفة "لا ستامبا" الإيطالية، بالقول إنه من المستحيل ربط أي إستراتيجية خاصة بحلف شمال الأطلسي بفيلسوف معين.

لكن هذا لا يعني -برأيهما- أن المواقف النظرية والحجج الأيديولوجية لبعض المفكرين لم تلهم أو تضفي الشرعية أو تحفز بعض الإجراءات الحاسمة للتحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة.

والتمس زابالا وغالو في مقالهما المشترك الجواب من قراءتهما لأفكار 4 فلاسفة غربيين، لعلها تتيح لهما فهما أعمق للكيفية التي أدت إلى نشوب الصراع الحالي، وربما تعلمنا كيفية منع نزاعات أخرى من الاندلاع في المستقبل.

إن الفكرة الرئيسية التي تربط هؤلاء الفلاسفة المولودين في الغرب بعضهم بعضا، تكمن في الاعتقاد بأن العقلانية هي بنية عالمية مستكنة في جوهر الإنسانية برمتها، فهم يضفون طابع العالمية على أفكارهم ولكنهم في الواقع لا يروجون إلا للمُثُل الغربية الصارمة.

يورغن هابرماس

ولعل المفكر الأول الذي يعتبره الكاتبان قادرا على مساعدتهما في فهم تصرفات الناتو ودوافعه في الفترة التي سبقت حرب أوكرانيا هو الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس.

الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس
الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس (وكالات)

كان هابرماس ضد غزو العراق عام 2003، لكنه أيد قصف الناتو ليوغوسلافيا عام 1999 دون موافقة الأمم المتحدة (وهما تصرفان يتعذر الدفاع عنهما بنفس القدر من وجهة النظر القانونية).

وبالنظر إلى خطر التصعيد النووي في سياق حرب أوكرانيا، فإن الفيلسوف الألماني يدعو الآن إلى "حل وسط يحفظ ماء الوجه لكلا الجانبين".

وتظهر هذه المواقف المتناقضة ظاهريا البراغماتية المناهضة للعالمية التي تؤكد فلسفته، لكنها لا تشي أو تنم عن أن هابرماس يروج لنموذج للديمقراطية الاجتماعية يتجاوز حدود الدول القومية.

ولد هابرماس في مجتمع الطبقة الوسطى البروتستانتية في ألمانيا الغربية، ليصبح أبرز فلاسفة أوروبا المعاصرين بتاريخ مهني امتد ما يقرب من 7 عقود، وضع خلاله نظامًا فلسفيًّا يربط بين نظرية المعرفة واللغويات وعلم الاجتماع والسياسة والدين والقانون.

وتتطلب الديمقراطية، حسب هابرماس، مجالًا سياسيًّا نشطًا ومؤسسات سياسية قادرة على الاستجابة ودمج الطاقة التي تنشأ عن النقاش والاحتجاج والمواجهة والسياسة.

وحذر الفيلسوف الألماني -الذي يوصف بأنه وريث تركة مدرسة فرانكفورت التي ابتكرت مفاهيم فلسفية مثل الهيمنة التقنية والعقل الأداتي- من تزايد خطر "الشعبوية" الوطنية واليمين المتطرف إذ رأى أن السلطات السياسية تعامت عنه بذريعة معاداة الشيوعية المهيمنة.

دعا هابرماس إلى هوية أوروبية جماعية تستند إلى ما يسميه "الوطنية الدستورية" التي تحلّ محل الطبقة والدين والأمة في القارة العجوز، وعارض الفاشية والقومية وصعود اليمين، داعيا الديمقراطيات الليبرالية في الغرب إلى "احترام كرامة الإنسان".

وطوّر الفيلسوف الألماني مفهوم "الوطنية الدستورية" أواخر الثمانينيات، معارضًا بناء ألمانيا بعد الحرب على قاعدة قومية، وإنما يلزم بناؤها على التقاليد الديمقراطية الليبرالية الأوروبية الأوسع، التي ينبغي أن يجد فيها المواطنون هويتهم في "وطنية دستورية" مفتوحة لجميع البشر بدلا من التمركز حول التاريخ القومي، حسب مراجعة فورين بوليسي.

وجادل هابرماس بأن الأوروبيين يجب أن يروا أنفسهم موحدين بإرث الثورة الفرنسية وقيم حقوق الإنسان، وعارض حرب العراق منتقدًا إدارة جورج بوش "لانتهاكها القانون الدولي"، وذمّ مواقف بعض دول أوروبا الشرقية التي أيدت التدخل الأميركي في العراق، ووجد بوادر أمل في ما أسماه "قوة المشاعر" التي ألهمت ملايين الأوروبيين للاحتجاج على غزو العراق.

فرانسيس فوكوياما

مفكر آخر هو الأميركي ذائع الصيت فرانسيس فوكوياما، الذي يدعم نفس نموذج الديمقراطية الاجتماعية الذي روج له هابرماس، وبالتالي يمكنه المساعدة في شرح الدوافع والتفكير وراء إستراتيجيات الناتو في العقود القليلة الماضية.

وفقا لفوكوياما، فقد تحقق هذا النموذج بعد الحرب الباردة، بعد انتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية على الاتحاد السوفياتي.

كانت تلك بالنسبة له نهاية التاريخ -أي نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية- وجادل بأن الديمقراطية الليبرالية الغربية هي الشكل النهائي والأفضل للحكومة البشرية التي يمكن لأي شخص أن يأمل فيها.

وقد أدرك فوكوياما مؤخرا أن الديمقراطيات الغربية يمكن أن تتحلل، وأن العالم يمكن أن يواجه "نهاية التاريخ" إذا لم توقف الولايات المتحدة وبقية الغرب، روسيا والصين من فعل ما يحلو لهما والسيطرة على العالم. كما أشاد برغبة فنلندا والسويد في الانضمام للناتو.

ويقول فوكوياما -مؤلف كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"- إن العالم يقف اليوم في لحظة بالغة الأهمية، لأن نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الإطاحة بالديمقراطية في أوكرانيا واستبدال نظام تابع له بها، سيكون سابقة مروعة لاستخدام القوة الخالصة، وسيلهم الصين إعادة دمج تايوان، كما سيعني إذلالا للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO)، ويفهم منه العالم بأسره أن الوعود الأميركية بالدعم مجرد كلمات جوفاء وأن التعاون بين الديمقراطيات مجرد سراب.

مايكل والزر وبرنار هنري ليفي

وثالث المفكرين الذي يعتقد كاتبا المقال أن أفكاره يمكن أن تساعد في فهم موقف الناتو من الصراع في أوكرانيا هو الفيلسوف السياسي الأميركي والخبير في أخلاقيات الحرب، مايكل والزر، الذي يرى أن الحرب في أوكرانيا تظهر مرة أخرى القيمة الدائمة لنظرية "الحرب العادلة".

وقد استخدمت هذه النظرية لتبرير العديد من تدخلات الناتو في العقود القليلة الماضية. وكان والزر قد أيد في الماضي مزاعم إسرائيل "بالحرب العادلة" ضد فلسطين، وواجه انتقادات كبيرة بسبب ذلك. لكنه الآن يدعم تسليح أوكرانيا بدلا من البحث عن حلول دبلوماسية للصراع.

غير أن زابالا وغالو يعتقدان أن أفكار الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي هي أفضل تفسير لموقف حلف الناتو من الحرب في أوكرانيا.

ويزعم ليفي -المعروف بتأييده الكبير لإسرائيل- أن تدخلات الناتو ضد روسيا في سوريا وليبيا، والآن في أوكرانيا، لم تكن كلها مبررة فحسب بل حيوية أيضا، إذ لا يوجد بديل عن الغرب كحامل لمشعل القيم العالمية.

وإذا كان المفكر الفرنسي يدعم التدخل العسكري في كثير من الأحيان، فذلك لأنه يؤمن بأن الحضارات الأخرى (الروسية والصينية والإسلامية) إذا ما سادت وأصبحت القوة المهيمنة على الأرض، فإنها ستشكل على الدوام خطرا أكبر من الحرب مهما كانت الحرب مكلفة ومدمرة.

وبينما يرى ليفي في نفسه مناصرا لحقوق الإنسان وداعية ضد الدكتاتوريات والتسلط، يصفه خصومه بأنه "أوليغارشي يخدم الأقوياء على غرار الشخصيات التي تحتكر كل أنواع النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي"، وممثلٌ لبورجوازية مخملية تتبادل المصالح والصداقات والخدمات وتمارس الضغط.

ورغم كل ما استقرأه الكاتبان من أفكار لأولئك الفلاسفة فإنهما يؤكدان أنه لا يمكن الجزم بأن قادة حلف الناتو يستلهمون إستراتيجياتهم بالفعل من هابرماس أو فوكوياما أو والزر أو ليفي.

المصدر : الجزيرة