الأيديولوجيا والثقافة في الحرب الروسية على أوكرانيا.. الأصول الفكرية لحرب بوتين

خلال خطابه الذي ألقاه في نادي فالداي (المكافئ الروسي لمنتدى نقاش النخبة دافوس) في سبتمبر/أيلول 2021 أشار بوتين إلى 3 مؤلفين مؤثرين: الفيلسوف اللاهوتي المولود في كييف نيقولا بيرديائيف (1874-1948)، وعالم الأعراق السوفياتي ليف غوميليوف (1912-1992)، والمنظّر الأيديولوجي إيفان إيليين (1883-1954) 

كومبو يجمع الشخصيات التالية - نيقولا بيرديائيف - ليف جوميلوف - إيفان إيليين - ألكسندر دوغين
من اليمين المفكرون الروس نيقولا بيرديائيف وإيفان إيليين وألكسندر دوغين وليف غوميليوف (مواقع التواصل)

منذ قرابة 3 أسابيع يكافح المثقفون والكتّاب في الغرب لفهم دوافع حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، ويبحثون عن مبررات فكرية وثقافية وحتى دينية تشكل عوامل محتملة للحرب إضافة إلى الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية المعروفة.

فهل كانت خطوة بوتين عقلانية أم رد فعل متهور ومجنون؟ يصر البعض على أن الجوانب السياسية والإستراتيجية لا تكفي لتبرير الحرب، ويبحثون عن مفكر ملهم للرئيس الروسي ربما يكون دافعه للحرب على طريقة المثقف المثير للجدل غريغوري راسبوتين الذي كان مستشارا نافذا في بلاط الإمبراطورية وملهما ومقنعا للقيصر نيقولا الثاني وزوجته ألكسندرا فيودوروفنا حتى زمن قيام الثورة الروسية عام 1917.

لكن راسبوتين كان معارضا للحرب، وظل يتوسل للقيصر ألا يتورط في القتال مع العثمانيين في البلقان عام 1913، وتنبأ الراهب واللاهوتي بزوال حكم أسرة رومانوف إذا دخلت الحرب، ومع ذلك دخل القيصر الروسي الحرب العالمية الأولى التي فقد أكثر من 4 ملايين روسي فيها أرواحهم.

وهكذا تبدو المقارنة مع راسبوتين معكوسة، فقد كان الراهب معارضا بشدة للحرب واستخدم نفوذه على الإمبراطورة والقيصر في محاولة تجنبها، فيما المثقفون المقربون من الرئيس الروسي قد يكونون من داعمي الحرب.

ملهمو بوتين

وفي مقاله بمجلة "أنهيرد" (Unherd) البريطانية كتبت مارلين لارويل مديرة معهد الدراسات الأوروبية والروسية بجامعة جورج واشنطن أنه في المشهد الروسي الراهن لا يوجد أحد يمكن وصفه بالمعلم لبوتين فالواقع أكثر تعقيدا، ومع ذلك هناك العديد من المصادر الأيديولوجية التي تسبب خلطها بالحرب الكارثية، وكلها عملت من خلال "بلاطه" على إنجاز مهمة إعادة أوكرانيا كدولة للدوران في فلك روسيا.

خلال خطابه الذي ألقاه في نادي فالداي (المكافئ الروسي لمنتدى نقاش النخبة دافوس) في سبتمبر/أيلول 2021 أشار بوتين إلى 3 مؤلفين مؤثرين: الفيلسوف اللاهوتي المولود في كييف نيقولا بيرديائيف (1874-1948)، وعالم الأعراق السوفياتي ليف غوميليوف (1912-1992)، والمنظّر الأيديولوجي إيفان إيليين (1883-1954).

استعار بوتين من غوميليوف مفهوميه الأكثر شهرة، أولا: المصير التاريخي المشترك لشعوب أوراسيا وتعدد الجنسيات الحقيقية لروسيا، في مقابل القومية العرقية الروسية، وثانيا: فكرة "العاطفة" كقوة حية خاصة بكل مجموعة تتكون من طاقة كونية حيوية وقوة داخلية كما صرح بوتين في فبراير/شباط 2021 "أنا أؤمن بالعاطفة، في نظرية العاطفة روسيا لم تبلغ ذروتها، نحن في مسيرة، على مسيرة التنمية، لدينا شفرة وراثية لا نهائية، وهي تقوم على اختلاط الدم".

وأشار بوتين في عدة مناسبات إلى رؤية إيليين لمصير روسيا الفريد المفترض ومركزية قوة الدولة في التاريخ الروسي، وقد لاحظ أيضا بالتأكيد كراهية إيليين الغاضبة لأوكرانيا.

وبالنسبة لإيليين سيحاول أعداء روسيا إخراج أوكرانيا من فلك روسيا من خلال الترويج المنافق للقيم الديمقراطية بهدف جعل روسيا تختفي كخصم إستراتيجي، وقد كتب "أوكرانيا هي منطقة روسيا الأكثر عرضة لخطر الانقسام والغزو، الانفصالية الأوكرانية مصطنعة وخالية من أسس حقيقية، لقد ولدت من طموح قادتها والمكائد العسكرية الدولية".

أوكرانيا وروسيا

ومع ذلك، فإن إسناد رؤية بوتين لأوكرانيا إلى إيليين فقط هو فشل في فهم أنه من الشائع بالنسبة للمفكرين الروس القول إن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا وواحدة من نقاط الضعف في مواجهتها مع الغرب.

كان الآباء المؤسسون الأيديولوجيون للنزعة الأوروآسيوية في العشرينيات أيضا مناهضين بشدة للأوكرانيين، فقد استنكر الأمير بيوتر تروبيتزكوي الثقافة الأوكرانية ووصفها بأنها "ليست ثقافة، بل صورة كاريكاتيرية".

وأوضح جورج فرنادسكي أن "الانقسام الثقافي (بين الأوكرانيين والبيلاروسيين) هو فقط خيال سياسي، من الناحية التاريخية من الواضح أن الأوكرانيين والبيلاروسيين هم فرعان لشعب روسي فريد".

ومن بين الأيديولوجيين المعاصرين استشهد المراقبون الغربيون بحماس ألكسندر دوغين باعتبار أن له تأثيرا قويا على بوتين، وقد كان دوغين بالفعل دائما عدوا لأوكرانيا المستقلة "أوكرانيا كدولة ليس لها معنى جيوسياسي" كما كتب في كتابه "أسس الجغرافيا السياسية"، ودعا إلى أن تستوعبها روسيا بالكامل تقريبا وترك معظم المناطق الغربية من أوكرانيا خارج نطاقها.

لكن بحسب الكاتبة فإن دوغين راديكالي وغامض للغاية في صياغاته، مما يقرب أفكاره من كلاسيكيات اليمين المتطرف الأوروبية التي لا تستطيع التماشي مع احتياجات إدارة بوتين، لقد كان أحد المروجين الأصليين لمفهوم جيوسياسي لأوراسيا وروسيا كحضارة مميزة في التسعينيات، لكن هذه الموضوعات أصبحت أفكارا سائدة بصرف النظر عن استخدام دوغين لها في العقود التالية، ولم يكن دوغين أبدا عضوا في أي من العديد من منظمات المجتمع المدني المهمة حتى لو كان قادرا على إلهام بعض المؤثرين في دوائر الصناعة العسكرية والخدمات الأمنية، بحسب الكاتبة.

رعاة دوغين

ومن بين المفكرين الآخرين الذين يدافعون عن المهمة الإمبراطورية الروسية اثنان من رعاة دوغين: رجل الأعمال الأرثوذكسي كونستانتين مالوفيف الذي يقود قناة على الإنترنت ومجموعة للنقاش، والأسقف تيخون، وهو شخصية مؤثرة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ويشاع أنه أحد الذين "يعترف لهم" بوتين.

لقد عمل كلا الرجلين معا لدفع أجندة رجعية من حيث "القيم التقليدية"، بما في ذلك الموقف من قضايا الإجهاض والعسكرة وبيزنطة كنموذج تاريخي لروسيا، والتلقين الأيديولوجي للأجيال الشابة.

أصبح مالوفيف شخصية محورية في تواصل روسيا مع دوائر اليمين المتطرف والأرستقراطية الأوروبية، فيما يركز تيخون على سد الفجوة بين الكنيسة والكرملين وضمان التقارب الأيديولوجي بينهما، تقول الكاتبة.

الكنيسة الأرثوذكسية

يقودنا هذا إلى بطريركية موسكو (الهيئة المؤسسية للكنيسة الأرثوذكسية الروسية) والتي ظلت دائما غامضة في موقفها تجاه أوكرانيا، فالكنيسة تروج لمفهوم الأراضي الكنسية، أي حقيقة أن الأرض الروحية للكنيسة أوسع من حدود الاتحاد الروسي، وتشمل بيلاروسيا وأجزاء من أوكرانيا وكازاخستان.

من وجهة نظر الكنيسة للعالم تشكل جميع الدول السلافية الشرقية أمة تاريخية واحدة، وكييف هي مهدها الروحي، وسبقت الكنيسة اعتناق بوتين لفترة طويلة لفكرة الوحدة الروسية الأوكرانية كما أعلن في مقالته عام 2021، ولكن نظرا لأن البطريركية كانت تضم عددا كبيرا من رعاياها في أوكرانيا فقد كان عليها أيضا الاعتراف بسيادة أوكرانيا كدولة، وحاولت تجنب الاستقلال الكنسي للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية على الرغم من أن بطريركية القسطنطينية اعترفت بذلك في النهاية في عام 2018.

الكاتدرائية الرئيسية للقوات المسلحة الروسية (شترستوك)

وتقول الكاتبة إنه "لا نستطيع التأكد من مدى صدق تدين بوتين، لكنه يعتقد بالتأكيد أن الحضارة الروسية تعتمد على الأرثوذكسية كنواة ثقافية مركزية".

وينبغي أن يضاف إلى ذلك مفهوم "العالم الروسي" الذي تروج له الكنيسة بوضوح، في إشارة إلى مهمة إعادة توحيد "الأراضي الروسية" التي ستنتمي إليها أوكرانيا.

هناك أيضا المزيد من الشخصيات الخفية المؤثرة: أحد أقرب أصدقاء بوتين، رجل الأعمال الكبير يوري كوفالتشوك المعروف بآرائه المحافظة والدينية حول عظمة روسيا، وهو واحد من أكثر الشخصيات الاقتصادية والإعلامية سرية في الدوائر الداخلية لبوتين، ولا يتمتع بأي وضع في مؤسسات الدولة بحسب الكاتبة.

وهو أكبر مساهم في أحد البنوك الروسية الرئيسية، ويسيطر على العديد من القنوات الإعلامية والصحف الرئيسية، يقال إنه المصرفي الشخصي لبوتين، قام ببناء القصور الرئيسية للرئيس، وقضى بوتين جزءا كبيرا من إغلاق كورونا معه، وفي ما يبدو فهو من غرس فيه فكرة أن التاريخ مهم أكثر من الحاضر، وأن بوتين بحاجة إلى التفكير في إرثه بتاريخ روسيا على المدى الطويل، بحسب الكاتبة.

لكن حتى لو تمكنا من تحديد الشخصيات التي لها تأثير عقائدي على بوتين فإن ذلك لن يوضح ما يدفعه إلى الحرب، لأن وجهات النظر الأيديولوجية للعالم تتشكل دائما من خلال سمات ثقافية أوسع من مجرد قراءات محددة.

أنتجت الثقافة السوفياتية بأكملها على مدى عقود روايات عديدة عن افتقار أوكرانيا المفترض للهوية الجيوسياسية الواضحة، ورسمت المنطقة على أنها متأرجحة إلى ما لا نهاية بين الرعاة المتنافسين على مر القرون.

لقد تم إدانة القومية الأوكرانية بعمق بدعوى عدم "تطهيرها" من وصمة نزعاتها التعاونية خلال الحرب العالمية الثانية مع النازية، وكانت هذه الاستعارات جزءا من الأدوات السياسية للنظام السوفياتي الذي قمع العديد من الأوكرانيين باسم "قوميتهم (البرجوازية)"، وتمت مشاركتها أيضا على مستوى غير سياسي من خلال النكات عن الأوكرانيين.

وبلغت هذه الرؤية ذروتها بالنقش في الدستور الذي تنص تعديلاته الجديدة لعام 2020 على أن الدولة تحمي "الحقيقة التاريخية"، ولعبت العديد من مؤسسات الدولة -مثل الجمعية التاريخية العسكرية- دورا مركزيا في تقوية حروب الذاكرة، وبالتالي في تغذية فلاديمير بوتين بسرديات عن النازية المفترضة في أوكرانيا.

وتختم الكاتبة بأنه تم بناء نظرة بوتين للعالم على مدى سنوات عديدة، وتشكلت من خلال استيائه الشخصي من الغرب أكثر من أي تأثير أيديولوجي، وكذلك عبر قراءة الأعمال الكلاسيكية للفلسفة الروسية التي تصر على صراع روسيا التاريخي مع الغرب، وتؤكد على دور أوكرانيا كحدود حضارية بين كليهما، وهو ما تعزز ببساطة من خلال تجربته الشخصية.

المصدر : الجزيرة + الصحافة البريطانية + مواقع إلكترونية