كان يحفظ قصصه ويلقيها كالشعر.. يحيى الطاهر عبد الله في ذكرى وفاته

بدأ الأديب الصعيدي الشاب بلقاء كبار الكتاب في المقاهي، وكان يحفظ قصصه عن ظهر قلب، ويلقيها كالقصائد على مسامع الأدباء والجمهور، وكأنه يرى ذلك طريقته لتقريب المسافة بين الأديب والراوي الشعبي.

شاعر القصة القصيرة‎‎ الراحل يحيى الطاهر عبد الله نوّع بين أدب الصعيد وأدب القاهرة وتوفي عام 1981 (مواقع التواصل)

القاهرة- "أنا ابن القرية وسأظل.. وتجربتي تكاد تكون كلها في القرية، والقرية حياة قائمة، هي الكرنك في الأقصر، وأرى أن ما وقع على الوطن وقع عليها، وهي قرية منسية منفية كما أنا منفي ومنسي..".

هكذا يصف الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله مسقط رأسه قرية الكرنك في مدينة الأقصر الشهيرة جنوبي مصر، التي كانت ملهما لأهم قصصه ورواياته وأشهرها رواية "الطوق والأسورة".

ويحكي الطاهر -الذي تحل ذكرى وفاته في 9 أبريل/نيسان 1981- أنه عندما يبتعد عن قريته يسعي إليها في المدينة، ويبحث عن أهله وأقربائه وناسه الذين يعيشون معه، وأنه لا يحيا إلا في عالمها السفلي. يقول "حين ألتقي بهم، نلتقي كصعايدة، كأبناء كرنك، ونحيا معا ألمنا المصري وفجيعتنا العربية، وبُعدنا عن العصر كشخوص مغتربة".

يحفظ قصصه

ولد الطاهر يوم 30 أبريل/نيسان 1938 في قرية الكرنك بالأقصر. ماتت أمه وهو صغير، وربّته خالته، وتعلم في الكرنك حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة، وعمل بوزارة الزراعة.

انتقل إلى مدينة قنا عام 1959، حيث التقى الشاعرين عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل، وانتقلوا جميعا إلى القاهرة لتبدأ رحلتهم في عالم الأدب والأضواء.

بدأ الأديب الصعيدي الشاب لقاء كبار الكتاب في المقاهي، وكان يحفظ قصصه عن ظهر قلب، ويلقيها كالقصائد على مسامع الأدباء والجمهور، وكأنه يرى ذلك طريقته لتقريب المسافة بين الأديب والراوي الشعبي.

يقول الطاهر إنه يجب أن يقول ولا يجب أن يكتب، لأن أمته لا تقرأ، وإنه إذا أجاد القول يجد من يسمعه، وحين يقول يكثر مستمعوه، لأن الناس ليسوا صمّا، مضيفا "أنا لا أبذل جهدا في الكتابة لأنني أدوّن ما أقوله في جلساتي وتعاملاتي".

في مقهى ريش بوسط القاهرة، التقى الطاهر بالكاتب الكبير يوسف إدريس، وأبدى إدريس إعجابه بمجموعة "محبوب الشمس"، ليقدمه في مجلة الكاتب، فتكون بعد ذلك انطلاقة الطاهر عبد الله الكبيرة.

شاعر القصة

استعرض الطاهر في قصصه ارتباط الناس بالمكان، وما قد يحويه من حياة وأسطورة، فجاء أدبه متمردا للغاية على القوالب الثابتة في القصة. ابتكر لغة خاصة به، امتزج فيها الحكي أو السرد بلغة شاعرية وإيقاعات منغمة، سماه بعض النقاد "شاعر القصة"، كما أطلق عليه البعض الآخر "القصة القصيدة"، وفقا لجريدة الأهرام.

نوّع الطاهر بين أدب الصعيد وأدب القاهرة، حيث كشف لنا عن مناطق مجهولة ومسكوت عنها في الحياة اليومية في قرى الجنوب التي يعرف كل دقائقها، كما كان رائدا في نقل العوالم السفلية لصعاليك القاهرة، خالطا في قصصه بين الحكي والأسرار والتابوهات، مع خلفية من التراث وعالم الأسطورة والخرافة.

ويحكي الناقد الراحل جابر عصفور عن أدب الطاهر، أن أول ما لفت نظره لعالمه هو قصة "جبل الشاي الأخضر"، التي يصفها أنها حفرت حضورها في ذاكرته بوصفها مثالا دالا على عالم يحيى الذي تجسّد أول ما تجسد في قرية كالكرنك، وجسدها بوصفها نموذجا لأشباهها من القرى الغارقة في الفقر والخرافة.

الطوق والأسورة

كان أبرز أعماله رواية "الطوق والأسورة" (1975). تدور أحداث القصة في قرية الكرنك، حيث تسيطر الخرافة والجهل والمرض والتقاليد الراسخة على الناس، وحيث الأب "بخيت" رجل عجوز قليل الحيلة، عاجز عن العمل، ويلقي أعباء الأسرة على الأم، والابنة تنتظر عودة أخيها الغائب وقدوم الزوج المناسب.

لاقت الرواية نجاحا كبيرا، فتم تقديمها في فيلم شهير من إخراج خيري بشارة عام 1986، وبطولة شريهان وعزت العلايلي والمطرب محمد منير.

أبرز أعماله

كان أهم ما نشره "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا" (1970)، و"الدف والصندوق" (1974)، و"أنا وهي وزهور العالم" (1977)، و"الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة" (1977)، و"حكايات للأمير حتى ينام" (1978)، و"تصاوير من الماء والشمس" (1981).

آخر أعماله قصة "الرسول"، ومجموعته القصصية "الرقصة المباحة" التي أعدها للنشر قبل رحيله، ولم يمارس أي أعمال أخرى منذ انتقل للقاهرة سوى كتابة القصة والأدب وبعض قصص الأطفال.

الكتابات الكاملة لشاعر القصة القصيرة يحيى الطاهر عبد الله تضم مجموعات قصصية وقصة طويلة و3 روايات (الجزيرة)

قال عنه صديق عمره الأديب الراحل عبد الرحمن الأبنودي إن الطاهر كان نهم القراءة، يقرأ في مكتبة عمه، ويدافع عن آرائه حتى الموت، بحميمية وصدق، مما يدل على أنه اتخذ الثقافة أهلا ومنهج حياة ودارا وعائلة، ويتحزب تحزبا مصيريا لما يعتقده.

ويضيف الأبنودي أن الطاهر حين يكتب القصة، كان يستعمل بسطاء الناس والمغفلين والمندهشين موضوعات يكتبها بصوت عال، ويمارس عليهم ألاعيبه الخارقة التي هي مزيج من العبقرية والعبث الواعي والجنون والمشاكل بين أقدامه.

رحيله

شكّل رحيل يحيى الطاهر في حادث سير على طريق القاهرة الواحات في 9 أبريل/نيسان 1981 صدمة كبيرة لجمهوره وأصدقائه في الوسط الأدبي، ولم يكن قد تجاوز سن 43 عاما بعد.

وتحت عنوان "النجم الذي هوى"، كتب الأديب الراحل يوسف إدريس ناعيا الفتى الذي قدّمه للقراء قبل عقدين من الزمن، قائلا:

"حين رأيته كان قادما لتوه من أقصى الصعيد من قرية الكرنك بجوار الأقصر، وكان نحيلا كعود القمح، حلو الحديث والمعشر كعود القصب، فتان القامة والبنية واللمحة، وذلك الخجل الصعيدي الشهم الذي لا تخطئة عين".

كما نعاه الأبنودي في قصدية بعنوان "عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبد الله":

كنا شقايق على البعد
وع القرب شأن الشقايق
أنا كنت راسم على بعد
وخانتني فيك الدقايق

وكتب أمل دنقل في قصيدة "الجنوبي" ينعى رفيق رحلته الذي شاركه شقة متواضعة في قلب القاهرة لسنوات، مخاطبا ابنته أسماء الطاهر:

ليت أسماء تعرف أن أباها صعد

لم يمُتْ

هل يموت الذي كان يحيا

كأن الحياة أبد

وكأن الشراب نفد

بعد رحيله، توالت طباعة أعماله وترجمتها للغات عديدة مثل الإنجليزية والإيطالية والألمانية والبولندية، كما أصدرت مكتبة الأسرة أعماله الكاملة.

المصدر : الجزيرة