القصة أم الشعر؟.. معركة أدبية بين محفوظ والعقاد بأربعينيات القرن الماضي

لم يرد العقاد على محفوظ وكان شابا، ربما استصغارا لشأنه واعتزازا بنفسه، وبالتالي لم تتسع هذه المعركة الأدبية التي دارت منتصف الأربعينيات كما اشتهرت معارك أدبية عديدة خاضها العقاد ضد مشاهير عصره من الأدباء والشعراء.

القاهرة – "إنني لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول، وقد تكون الرواية أخصب قريحة، وأنفذ بديهة من الشاعر أو الناثر البليغ، ولكن الرواية تظل بعد ذلك في مرتبة دون مرتبة الشعر، ودون مرتبة النقد أو البيان المنثور..".

بهذا الرأي الصادم أثار الكاتب والمفكر عباس العقاد جدلا كبيرا، مؤكدا أن الشعر أهم من الرواية بفارق كبير، وذلك في حوار مع نفسه ضمن كتابه "في بيتي" حيث يسأله محاوره عن سبب قلة القصص على رفوف مكتبته.

يستند العقاد لمقياسه "الأداة بالقياس إلى المحصول" حيث يرى أنه كلما قلَّتِ الأداةُ وزاد المحصول، ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما تضخمت الأداة وقل المحصول، مال إلى النزول والإسفاف، وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات، وإن 50 صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيه بيتٌ من الشعر كهذا البيت:

وتلفَّتت عيني فمذ بعدت .. عني الطلول تلفَّت القلبُ

ويضيف العقاد -الذي تحل ذكرى وفاته في 12 مارس/آذار 1964- أن "القصة لا تصل إلى المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه، فيما زعم الرواة، أنه قنطار خشب ودرهم حلاوة".

فن القصة شائع

أما المقياس الثاني الذي استند إليه العقاد فهو الطبقة التي يشيع بينها القصة، ووجد أن فن القصة شائع وسط طبقات العامة الضحلة الثقافة، بينما عشَّاق الشعر نادرون، وإن القصَّاص قد يكون أخصب خيالا من الشاعر، لكنه لا يفضله، فنحن لا نفضل الجميز على التفاح لمجرد أن الأرض التي أنبتته أخصب و"ليس أشيع من ذوق القصة، ولا أندر من ذوق الشعر والطرائف البليغة، وليس أسهل من تحصيل ذوق القصة، ولا أصعب من تحصيل الذوق الشعري الرفيع بين النخبة".

تحامل وتعالٍ

يعلق الكاتب أحمد خالد توفيق أن رأي العقاد لا يخلو من التحامل والتعالي بلا مبرر، وأن العقاد قدم رواية وحيدة هي "سارة" (عام 1937) فكانت النتيجة ممسوخةً، مما جعلها أقرب لمقال نفسي طويل عن الشك، أو بعض الألعاب اللفظية البارعة، مضيفا "هو لم يملك موهبة الرواية فعلًا حتى ينتقدها؛ ربما هو منطق العنب فوق الشجرة غير سائغ لأنه حامض، الدليل على هذا أن العقاد اهتمَّ بدراسة الرواية كثيرًا جدًّا، كأنه يحاول فهم هذا الفن المراوغ الذي لم يستطع فكَّ طلاسمه".

لم يكن منصفا

بينما يرى أستاذ النقد العربي في جامعة القاهرة حسين حمودة أن رأي العقاد لم يكن منصفا تجاه فن الرواية، وهو الفن الذي كان قد تم توطينه في الأدب العربي الحديث، وكان قد قطع شوطا فنيا ملحوظا، بعد صدور أعمال مهمة مثل "زينب" لمحمد حسين هيكل، و"عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حقي ثم "عودة الروح" لتوفيق الحكيم.

ويضيف حمودة أن العقاد تمثل روائيا في روايته "سارة" فالملامح الفنية في هذا النص تجعله لا يتجاوز قسمات حقبة مُبكرة من تطور فن الرواية، أي فيما قبل نضجها الفني، كما أن صياغة شخصيات الرواية جاءت أشبه بتمثلات ذهنية تعبر عن أفكار العقاد، كما احتشدت بعبارات كثيرة من قبيل الاستطرادات الزائدة عن الخيط الروائي الأساسي، مما يجعلها نصا غير بعيد عن رأي العقاد المتحفظ حول فن الرواية، بحسب صحيفة الأهرام.

رد محفوظ

وكما يسرد الكاتب توفيق في كتابه "اللغز وراء السطور" فقد أثارت آراء العقاد استفزاز محفوظ وهو بعد أديب شاب يخطو خطواته الأولي في عالم الأدب، فقدم ردا على الأستاذ تحت عنوان "القصة عند العقاد"، وكتب "كونه لا يقرأ قصةً حين يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوان شعر إنما هو أمر يسلب العقاد حقَّ الحكم على القصة؛ فالرجل الذي لا يقرأ قصةً حين يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوانَ شعرٍ ليس بالحَكَم النزيه الذي يقضي في قضية القصة".

وأضاف محفوظ أن الفن أيا كان لونه وأداته هو تعبير عن الحياة الإنسانية، وهدفه واحد حتى ولو اختلفت كيفية التعبير تبعا لاختلاف الأداة، وكلُّ فنٍّ في ميدانه السيدُّ الذي لا يُبارَى، وبالتالي فالفنون جميعًا تتفق في الغاية وتتساوى في السيادة، كلٌّ بحسب مجاله، وهي في مجموعها تكون دنيا الأفراح والمسرات والحرية، والقصة لا ترمي لمغزًى يمكن تلخيصه في بيت من الشعر، ولكنها صورة من الحياة، كلُّ فصل منها يمثِّل جزءًا من الصورة العامة، وكلُّ عبارة تعين على رسم جزءٍ من هذا الجزء، فكلُّ كلمة وكلُّ حركة تشترك في إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية.

معارك أدبية

لم يرد العقاد على الأديب الشاب، ربما استصغارا لشأنه واعتزازا بنفسه، وبالتالي لم تتسع هذه المعركة الأدبية التي دارت منتصف الأربعينيات كما اشتهرت معارك أدبية عديدة خاضها العقاد ضد مشاهير عصره من الأدباء والشعراء، وكان من أبرز خلافاته الأدبية مع عميد الأدب العربي طه حسين حول فلسفة أبي العلاء.

صاحب العبقريات

اكتسب العقاد بجهده الذاتي ثقافة موسوعية، فتعمق بمطالعاته في شتى المعارف الإنسانية وتناول بقلمه السيال شـُعبها المختلفة، مدافعا عن وطنه ودينه، كما دعا للحرية والديمقراطية مهاجما الماركسية والنازية.

وأسس بالتعاون مع إبراهيم المازني "مدرسة الديوان" التي دعت لتجديد الشعر العربي، ونظم صالونا أدبيا في بيته يجتمع فيه -صباح الجمعة- الأدباء والمفكرون.

وخاض العقاد مساجلات أدبية وسياسية كثيرة كان أشهرها مع مصطفى الرافعي وطه حسين وزكي مبارك، وأصدر مع المازني كتابا ينتقد أحمد شوقي.

اقتحم العقاد حلبة السياسة متقلبا في ولاءاتها المتناقضة، فانضم بعد ثورة 1919 إلى حزب "الوفد" وأصبح كاتبه الشارح لمواقفه السياسية والمنافح عنها، ثم تمرد عليه 1935 فهاجمه وانتقده بشدة.

دخل معركة حامية مع الملك فؤاد وانتقده بحدة داخل البرلمان فحُوكم سنة 1930 بتهمة "عيب الذات الملكية" وسجن 9 أشهر، لكنه أيد الملك فاروق بعد مغادرته "الوفد".

من أقواله "من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها أنني كنت -فيما أرجح- أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين.. (لكنني) كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين".

وتجاوزت كتبه الـ 100، ونشر آلاف المقالات الصحفية طبعت بعضها الهيئة المصرية العامة للكتاب في مجلدين كبيرين، وأصدر 9 دواوين سنوات 1916-1950.

من مؤلفاته: أول كتبه "الخلاصة اليومية عام 1912، ساعات بين الكتب عام 1914، الفلسفة القرآنية، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، المرأة في القرآن، اللغة الشاعرة، التفكير فريضة إسلامية عام 1962، سلسلة العبقريات". وقد ترجم بعض كتبه إلى لغات أجنبية.

المصدر : الجزيرة