في ظل شجرة عثمان.. تاريخ بيئي للشرق الأوسط العثماني

يدعو المؤلف في هذا الكتاب للنظر إلى الإمبراطورية العثمانية بوصفها نظاما إيكولوجيا (بيئيا) وهذا ما يعني ضرورة كتابة تاريخ بيئي لهذه المنطقة من العالم.

غلاف كتاب في ظل شجرة عثمان
كتاب "في ظل شجرة عثمان: الإمبراطورية العثمانية ومصر والتاريخ البيئي" للمؤرخ والمؤلف الأميركي آلن ميخائيل صدرت ترجمته العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون (الجزيرة)

خرجت الإمبراطورية العثمانية من رحم شجرة! هكذا تصف الأسطورة نشأة السلطة السياسية الأقوى والأبرز والأطول عمرا في الشرق الأوسط على مدار الألفية الماضية.

وتقول الأسطورة إن عثمان الأول -مؤسس الدولة- رأى في منامه أن بدرا نزل في صدره ثم خرجت من صلبه شجرة غطّت الأكوان بظلها، وحين قصّ عثمان رؤيته على شيخه أدرك الشيخ أن عثمان سيصبح حاكما لدولة قوية، فقرر أن يزوج بنته بالقائد المرتقب.

ويقول آلن ميخائيل -المؤرخ الأميركي وأستاذ التاريخ في جامعة ييل- إن قصة نشأة الإمبراطورية العثمانية دوّنت بنهاية القرن الـ15 بعد غزو القسطنطينية وترسيخ قواعد الإمبراطورية لتصبح قوة رئيسة سياسيا وعسكريا في البحر المتوسط، أي بعد قرنين تقريبا من رؤيا عثمان.

التاريخ البيئي للشرق الأوسط

ويسعى ميخائيل (1979)، في كتابه "في ظل شجرة عثمان: الإمبراطورية العثمانية ومصر والتاريخ البيئي" الذي صدرت ترجمته العربية حديثا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، في بيروت، بترجمة عبد الرحمن عادل، إلى النظر بعناية بالغة في العلاقة ما بين الطبيعة والسلطة في التاريخ العثماني، بالغوص أكثر في الماضي العثماني، خلال القرنين الـ16 والـ17.

ويدرس المؤرخ الأميركي تاريخ الشرق الأوسط من منظور إيكولوجي (العلاقة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها) مستعينا بالتاريخ البيئي أداة منهجية وتفسيرية تسمح بتناول المناخ، والمرض (علم الأوبئة)، وإدارة الموارد الطبيعية، والطاقة، والعمل البشري والحيواني، والتحكم في المياه، والتحول الاقتصادي.

ويركز المؤلف في كتابه على 500 عام الأخيرة وعلى مصر بالتحديد أكثر بلاد الشرق الأوسط سكانًا، ويحاول ميخائيل كتابة تاريخ بيئي لمصر العثمانية، عبر رصد علاقة الفلاحين بالمناخ والظروف البيئية التي أحاطت بهم، من حيوانات وطمي وبراغيث وطاعون وبراكين وتيارات مائية، ويؤكد أن مصر كانت تاريخيا أدرّ الولايات للعوائد.

وفضلا عن مركزيتها لدى الإمبراطورية العثمانية، فإن مصر حالة دراسية نموذجية لفهم دور الإيكولوجيا في السياسة والعكس بالعكس، فيرى الكاتب أن اعتماد مصر على النيل، وتاريخها الزراعي الغني، وموقعها الجغرافي بين بحرين وقارتين قد جعل الموارد الطبيعية مركز أي مشروع لحكم العثمانيين في مصر.

الكتاب يدرس تاريخ الشرق الأوسط من منظور إيكولوجي مستعينا بالتاريخ البيئي أداة منهجية وتفسيرية (غيتي)

وأضاف ميخائيل أن مصر بعد سيطرة العثمانيين عليها عام 1517م أثبتت أنها أهم ولايات الإمبراطورية، ومركز نظام الحكم والاقتصاد العثماني.

طمي وإمبراطورية

ويشير الكاتب إلى أن مصر كانت أكبر مصدر للغذاء، وكان لها دور محوري في تشكيل نفوذ العثمانيين في البحر المتوسط والبحر الأحمر والحجاز والمحيط الهندي.

ويبين المؤلف أن مصر "كانت بوابة رئيسة لانطلاق المساعي العثمانية التوسعية بأفريقيا في القرن الـ19″، ويلفت ميخائيل إلى أنه "في نهاية القرن الـ18 ومطلع القرن الـ19، ولما كانت مصر مركزا حيويا للنظام الإمبراطوري العثماني، تعاظم احتمال أن تكون مصدرا لتهديد الإمبراطورية وإضعافها أكثر من أي ولاية أخرى"، ويتابع "فجاءت أكبر التهديدات العسكرية لاستقرار الإمبراطورية ودوامها عن طريق مصر".

ويعدّ ميخائيل تاريخ الشرق الأوسط منذ مدة طويلة فجوة من فجوات السردية العالمية للبيئة، وأن في ذلك مشكلة رئيسة -حسب الكاتب- لكل من التاريخ البيئي العالمي وتاريخ منطقة الشرق الأوسط، ويبين ميخائيل "لدينا في وادي النيل مثلا سجل وثائقي لم يبحث بعد عن تفاعلات المصريين مع النيل منذ عام 3000 قبل الميلاد -على الأقل- إلى وقتنا الحاضر".

صراع وحبكة متآلفة

استعمل آلن ميخائيل أدوات التاريخ البيئي في دراسة الإمبراطورية، فهو يرى أن تحليل كثير من العلاقات ما بين الشعوب والبيئات يقدم منظورا كليًّا جديدا في دراسة تاريخ الشرق الأوسط.

ويوضح الكاتب أنه "في مصر حيث تنعدم الغابات، وتتركز جموع البشر، والحيوانات، والنيل، والنباتات، والطمي، وتيارات الرياح، والحبوب في علاقات اعتماد وصراع وحبكة متآلفة" ويضيف "كان ذلك كله في ظل وارف لشجرة عثمان".

ويبين ميخائيل أن البيئة وظروفها اضطلعت بدور مهم لمصلحة الفلاحين كي تكون لهم مشاركة في إدارة مناطقهم، فبخلاف الصورة التي تعتقد أن الفلاحين لم يكن لهم أي دور فاعل يرى آلن ميخائيل بدراسته لموضوع إصلاح الترع في إقليم المنوفية خلال النصف الأول من القرن الـ16 وجود دور للمجتمعات المحلية في تشكيل سياسة إدارة المياه.

التبادل البيئي: الملح والورق والمرض والعبيد

ويرى ميخائيل أن الشرق الأوسط كان بمنزلة بوابة لانتشار منتجات زراعية وطبيعية ونشر المعرفة بأساليب استغلال البيئة، وأنه كان ناقلا للمرض عبر مساحات شاسعة من أوراسيا والعالم، ويؤكد الكاتب أن الشرق الأوسط ظل على الأقل منذ العصور القديمة منطقة حيوية في الربط بين أوروبا والبحر المتوسط وأفريقيا من جانب، وقارة آسيا من جانب آخر.

ويتابع أن المنطقة كانت ملتقى سنويا للحجاج من مالي وحتى ماليزيا الذين جاؤوا لا لزيارة مكة والمدينة فحسب، بل لشراء البضائع التجارية من مدن الشرق الأوسط كله.

ويذكر الكاتب أن المعرفة بأساليب الري والأشغال المائية انتقلت من العالم الإسلامي إلى إسبانيا وإيطاليا، ويضيف أن البن في القرنين الـ15 والـ16 زرع في أراضي اليمن باستخدام أساليب مستوحاة من شرق أفريقيا، ليملأ أكواب القهوة في إسطنبول.

ويدعو المؤلف في هذا الكتاب للنظر إلى الإمبراطورية العثمانية بوصفها نظاما إيكولوجيا (بيئيا)، وهذا ما يعني ضرورة كتابة تاريخ بيئي لهذه المنطقة من وجهة نظر المؤلف.

ويذكر ميخائيل أن آخر عقدين من القرن الـ18 شهدا تقلبات مناخية قاسية أثرت في القارة الأوروبية، بظهور المجاعات والجفاف والمرض والمعاناة، ويؤكد أن غزوات أوروبية كثيرة على الشرق الأوسط نتجت عن هذا الواقع، وأفضت إلى حقبة الإصلاحات العثمانية التي عرفت باسم التنظيمات.

الطاعون والبضائع والتأثيرات المناخية

ويقول المؤلف إن أحوال التجارة العالمية ارتبطت بما يحدث في الشرق الأوسط ارتباطا وثيقا، معتبرا أنها "أثرت وتأثرت كلها بتاريخ بيئات الشرق الأوسط المتعددة، فقد كان أحد أسباب بروز الإسلام وانتشاره مثلا في القرنين الـ17 والـ18 هو انتقال أنواع جديدة من المحاصيل والأساليب الزراعية إلى أوراسيا (أوروبا وآسيا)".

ويشرح ميخائيل أن أحد الباحثين أطلق على هذه الظاهرة "الثورة الإسلامية الخضراء"، وقصد من ذلك الإشارة إلى وحدة صنعها هذا الدين الجديد وثقافة أنتجتها لتجمع أول مرة بين أجزاء متباعدة من العالم في منطقة إيكولوجية (بيئية) موحدة.

ويرجح الكاتب أن الطاعون في العصور الوسطى قد انتقل غربا من الشرق الأوسط إلى حوض البحر المتوسط، ويؤكد ميخائيل أن الطاعون في مصر كان مرضا مستقرا (مستوطنا) ضمن طائفة من الأمراض في البيئة.

ويضيف الكاتب أنه كان في نظر الناس واقعا بيئيا متوقعا ومقبولا حاله حال الفيضان السنوي للنيل، ويقول ميخائيل "كانت مصر كل 9 سنوات تقريبا عرضة لوباء الطاعون طوال الفترة ما بين 1347 و1894م"، وذكر المؤلف أن الطاعون نزل بمصر 193 مرة خلال هذه المدة البالغة 547 عاما.

ويبين المؤلف "يعود تكرار تفشي الطاعون في مصر إلى موقعها الإستراتيجي في قلب حركة التجارة، كما يرجع ذلك إلى وفود آلاف الناس والفئران والبراغيث إلى البلاد كل عام من مناطق أخرى ولا سيما عبر موانئها على المتوسط والطريق الجنوبي من السودان، فكانت تاريخيا ظاهرة لها صفة الديمومة".

ويقول الكاتب إن شبكات القوافل العابرة للصحراء تضمن تداولا مستقرا لمجموعة من الأشياء مثل الحيوانات، والورق، والمرض، والعبيد بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغربها.

ويرجح المؤلف أن الإمبراطورية العثمانية كانت بوابة انتقال الذرة ومحاصيل العالم الجديد الأخرى إلى الشرق.

ويؤكد ميخائيل أن الشرق الأوسط كان حاضرا في صلب تاريخ كل حالات التغير المناخي كما في العصر الجليدي الصغير في بداية العصر الحديث الذي خفض الإنتاجية الزراعية خفضا كبيرا في الإمبراطورية العثمانية، وكذلك انخفاض منسوب مياه النيل، وأيضا ظاهرة النينو المناخية التي تسببت في مجاعات نهاية القرن 19 في الأناضول وإيران.

ويشدد المؤلف أن "ظل شجرة عثمان" هو معالجة للتاريخ البيئي للشرق الأوسط وحجة له في الآن نفسه، إذ يمزج ظل شجرة عثمان -حسب الكتاب- بين بعض المعالم الرئيسة لرؤية آلن ميخائيل عن التاريخ البيئي للشرق الأوسط بمنهجية سلسلة وشاملة.

ويأمل المؤلف أن يعدّ الباحثون كتابه دليلا على حالة هذا المجال البحثي المتنامي وأن يكون مرشدا لسبل تطوير المجال، ونقطة انطلاق لأبحاث جديدة في ميادين أخرى مثل الآثار البيئية للحرب، والنوع الاجتماعي والبيئة، والتلوث، والاستعمار والبيئة وغيرها.

المصدر : الجزيرة