دروس التاريخ لعواقب تغير المناخ.. كيف يمكن للجفاف أن يقتلع الشعوب ويغذي الحروب؟

أدت سلسلة "تمردات جلال" التي حدثت بمناطق الأناضول نهاية القرن الـ16 وبداية القرن الـ17 لإضعاف سلطة الدولة العثمانية وكبح توسعها (غيتي)

في أواخر القرن الـ16، اقتحم المئات من قُطاع الطرق -الذين يركبون ظهور الخيل- ريف الأناضول العثماني، وداهموا القرى وحرضوا على العنف، وتسببوا في زعزعة حكم السلطنة التي دامت لقرون.

وقالت الكاتبة أندريا دافي، في تقريرها الذي نشره موقع "ذا كونفرسيشن" (The conversation) الأسترالي، إن هذه الأحداث المظلمة في تاريخ البحر الأبيض المتوسط ​تشترك ​في سمات رئيسية تقدم تحذيرا للمستقبل، فقد أجبرت عددا كبيرا من الناس على مغادرة منازلهم، وكانت لها عواقب سياسية وخيمة، كما كانت مدفوعة بالطقس القاسي المرتبط بتغير المناخ، بحسب الكاتبة التي تعمل مديرة الدراسات الدولية بجامعة ولاية كولورادو الأميركية.

بصفتها مؤرخة بيئية، بحثت أندريا دافي وكتبت حول الصراع والضغوط البيئية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي حين أن الجفاف الشديد والأعاصير وارتفاع مستوى المحيطات والهجرة المناخية يمكن أن تبدو ظواهر جديدة وفريدة من نوعها في عصرنا، فإن الأزمات الماضية المماثلة وغيرها تحمل دروسًا مهمة حول دور تغيّر المناخ في زعزعة استقرار المجتمعات البشرية.

جفاف في قلب إمبراطورية

أشارت الكاتبة إلى أننا نعيش في عصر الاحتباس الحراري بسبب الممارسات البشرية غير المستدامة إلى حد كبير. يُعرف هذا العصر باسم الأنثروبوسين (حقبة زمنية تبدأ بحلول القرن الـ19 وتؤرخ لبداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية) في أعقاب فترة أخرى من تغير المناخ العالمي الكبير تسمى العصر الجليدي الصغير.

وخلال العصر الجليدي الصغير، كانت درجات حرارة الكوكب أقل من المتوسط والطقس قاسيًا في أجزاء كثيرة من العالم. وعلى عكس الاحترار بشري المنشأ الحالي، من المحتمل أن سبب ذلك كان عوامل طبيعية مثل النشاط البركاني، وقد أثر ذلك على مناطق مختلفة من العالم في أوقات مختلفة وبدرجات وطرق متنوعة إلى حد كبير.

كان ظهور العصر الجليدي الصغير في أواخر القرن الـ16 ملحوظًا بشكل خاص في الأناضول، وهي منطقة ريفية إلى حد كبير شكلت في يوم من الأيام قلب الإمبراطورية العثمانية. تم استخدام جزء كبير من الأرض تقليديا لزراعة الحبوب أو رعي الأغنام والماعز. وقد وفرت مصدرا غذائيا مهما لسكان الريف وكذلك لسكان العاصمة العثمانية الصاخبة إسطنبول.

كان العقدان المحيطان بفترة العام 1600 قاسين بشكل خاص. فقد شهدت الأناضول بعض أكثر أعوامها برودة وجفافا في التاريخ، وذلك حسب ما تشير إليه حلقات الأشجار وغيرها من بيانات المناخ القديم. شهدت هذه الفترة أيضا موجات جفاف وصقيع وفيضانات متكررة. في الوقت نفسه، عانى سكان المنطقة من وباء الطاعون وسياسات سلطوية شملت مصادرة للحبوب واللحوم لتمويل حرب مكلفة في المجر.

كشفت مواسم الحصاد الضعيفة التي طال أمدها والحرب والصعوبات عن أوجه قصور كبيرة في نظام الإمداد العثماني. وفي الوقت الذي كان فيه الطقس القاسي يعيق جهود الدولة لتوزيع الإمدادات الغذائية المحدودة، انتشرت المجاعة عبر الريف إلى إسطنبول مصحوبةً بتفشي وباء قاتل.

وبحلول عام 1596، اندلعت سلسلة من الانتفاضات المعروفة باسم "تمردات جلال"، وأصبحت أطول تحد داخلي دائم لسلطة الدولة في وجود الإمبراطورية العثمانية على مدى 6 قرون.

ساهم فلاحون وجماعات شبه بدوية وزعماء المقاطعات على حد سواء في هذه الحركة من خلال سلسلة من أعمال العنف واللصوصية وزعزعة الاستقرار، التي استمرت حتى القرن الـ17.

مع استمرار الجفاف والأمراض وإراقة الدماء، هجر الناس المزارع والقرى، وفروا من الأناضول بحثًا عن مناطق أكثر استقرارًا، في وقت قتلت فيه المجاعة الكثيرين الذين كانوا يفتقرون إلى الموارد اللازمة للمغادرة.

إضعاف الدولة العثمانية

أوضحت الكاتبة أن الإمبراطورية العثمانية كانت واحدة من أقوى الإمبراطوريات في العالم الحديث المبكر. وقد امتدت أراضيها على مساحات شاسعة من أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وسيطرت على أقدس المواقع الإسلامية والمسيحية واليهودية.

وخلال القرن الـ16، توغلت القوات العثمانية في آسيا الوسطى، وضمت معظم المجر، وتقدمت عبر إمبراطورية هابسبورغ لتهدد فيينا في عام 1529.

كان لتمردات جلال عواقب سياسية كبيرة، إذ نجحت الحكومة العثمانية في استعادة الهدوء النسبي في ريف الأناضول بحلول عام 1611، ولكن بتكلفة. وتم إضعاف سيطرة السلطان على الولايات بشكل لا رجعة فيه، وساعدت هذه الرقابة الداخلية على السلطة العثمانية في كبح التوسع العثماني.

وأغلقت تمردات جلال الباب أمام "العصر الذهبي" العثماني، مما دفع هذه الإمبراطورية الضخمة إلى دوامة اللامركزية والنكسات العسكرية والضعف الإداري الذي من شأنه أن يقض مضجع الدولة العثمانية طوال القرون الثلاثة المتبقية من وجودها.

تغير المناخ وعواقب معاصرة

بعد 400 عام، دفعت الاضطرابات الاجتماعية التي تزامنت مع الضغط البيئي سوريا إلى حرب مدمرة، إذ ظهر هذا الصراع في سياق القمع السياسي وحركة الربيع العربي، وفي نهاية واحدة من أسوأ فترات الجفاف في سوريا في التاريخ الحديث، بحسب الأكاديمية الأميركية.

ويربط مراقبون بين موجات الجفاف الشديد التي أصابت مناطق مختلفة من سوريا منذ الثمانينيات -التي كان آخرها موجة شديدة بين 2006 و2010 وتسببت في فشل المحاصيل وهجرات من الريف للمراكز الحضرية واعتبرت الأسوأ منذ قرون- وبين تفاقم معاناة السوريين التي أدت لاندلاع الثورة في 2011.

ويقول تقرير سابق لدويتشه فيله "دي دبليو" (DW) الألمانية إن تلك الموجة -التي أصابت خصوصا شرقي البلاد- تسببت في فقدان 800 ألف من السكان مصادر أرزاقهم، في حين نفقت قرابة 85% من الثروات الحيوانية في سوريا، وهاجر على إثر ذلك قرابة 1.5 مليون سوري إلى المراكز الحضرية.

وينقل التقرير عن المبعوث الأممي السابق إلى سوريا ستيفان دي ميستورا قوله إن الأزمة "تعمقت أكثر مع قرار بشار الأسد تقليل الإعانات المقدمة للسكان فيما يتعلق بدعم الوقود والماء والكهرباء. وزاد استفحال الأزمة مع ندرة المياه والتوترات".

وتقول الكاتبة إنه من الصعب قياس حجم الدور البيئي في الحرب الأهلية السورية لأن تأثيره -كما هي الحال في تمردات جلال- كان مرتبطا بشكل دائم بالضغوط الاجتماعية والسياسية. لكن المزيج الوحشي لهذه العوامل لا يمكن تجاهله. لهذا السبب يتحدث الخبراء العسكريون اليوم عن تغير المناخ باعتباره "عاملا مضاعفا للتهديد".

دروس اليوم والمستقبل

وقد تكون منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​معرضة بشكل خاص للآثار السلبية للاحتباس الحراري، لكنّ هاتين القصتين ليستا حالتين معزولتين، بحسب الكاتبة.

ومع ارتفاع درجات حرارة الأرض، سيعيق المناخ بشكل متزايد الشؤون الإنسانية، مما يؤدي إلى تفاقم الصراع وتعزيز الهجرة.

وفي الأعوام الأخيرة، تعرضت البلدان المنخفضة مثل بنغلاديش للدمار بسبب الفيضانات، في حين أدى الجفاف إلى قلب حياة السكان في القرن الأفريقي وأميركا الوسطى، متسببا في تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين على بلدان أخرى.

وبحسب الكاتبة، يقدم تاريخ البحر الأبيض المتوسط ​​3 دروس مهمة لمعالجة القضايا البيئية العالمية الحالية، أولها أن الآثار السلبية لتغير المناخ تطال بشكل غير متناسب الفقراء والمهمشين، وهم الأقل قدرة على الاستجابة لها والتكيف معها.

كما أن التحديات البيئية تكون أكثر ضررا عندما تقترن بالقوى الاجتماعية، وغالبا ما يكون الاثنان مرتبطين بشكل لا يمكن تمييزه، وأخيرا يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى الهجرة وإعادة التوطين وتغذية العنف وإزاحة الأنظمة وإحداث تحول جذري في المجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم.

وهكذا سيؤثر تغير المناخ في النهاية على الجميع -بطرق مأساوية ومحزنة وغير متوقعة. وبينما نتأمل هذه الدروس، يمكننا تعلم الكثير من ماضينا، تختم الكاتبة.

المصدر : ذا كونفرسيشن