البابا شنودة الثالث والأب متّى المسكين.. قصة التلميذ والأستاذ

رأى البابا شنودة أن الكنيسة مؤسسة شاملة تقدم حلولا لكل المشاكل، بينما أكد الأب المسكين أن المسيحية علاقة بين الإله وضمير الإنسان بعيدا عن السياسة

كومبو يجمع بين Pope Shenouda III of Alexandria (شنودة الثالث) + الأب متى المسكين
بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية شنودة الثالث (يمين) والأب متّى المسكين الذي ألّف أكثر من 180 كتابا وترجمت أعماله للغات عالمية (وكالات)

في أبريل/نيسان 1991 تحدث البابا شنودة الثالث عن رهبان دير الأنبا مقار، وقال عنهم "هم يطيعون الأب متّى المسكين أكثر من طاعتهم للكنيسة وللمجمع المقدس"، وكانت هذه المحاضرة في كلية اللاهوت تناقش الخلافات العقدية بين الكنيسة الرسمية، والأب متّى المسكين ومدرسته، لكن الخلافات بينهما لم تكن في العقيدة فقط، بل امتدت إلى كيفية إدارة شؤون المسيحيين، وهو ما تطرق إليه شنودة أيضا.

يذكر أن البابا شنودة ولد عام 1923 باسم نظير جيد روفائيل، وأصبح بطريركا عام 1971 وتوفي 2012.

أما الأب متّى المسكين فاسمه يوسف إسكندر يوسف، وقد ولد عام 1919 وترهبن عام 1948 وتوفي عام 2006.

التلميذ الذي خالف أستاذه

كان شنودة، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، يعتبر أن هناك عوامل "نفسية" جعلت الأب متّى المسكين يخالف الكنيسة، فذكر شنودة أن كتاب "الكنيسة والدولة" للأب متّى المسكين صدر عام 1963 عقب ترسيمه والأنبا صموئيل (اسمه سعد عزيز، ولد عام 1920 وترهبن عام 1941 وتوفي عام 1981) أسقفين في 30 سبتمبر/أيلول 1962، ولم يصدر قرار بترسيم المسكين أسقفا، وكان صموئيل أسقفا للخدمات الاجتماعية وممثل الكنيسة في مجلس الكنائس العالمي، بينما كان شنودة أسقفا للتعليم.

ثم صدرت الطبعة الثانية، من الكتاب ذاته، عام 1977 عقب أحداث الفتنة الطائفية في القاهرة، وخلاف شنودة مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، والطبعة التالية عام 1981، عقب الخلاف الثاني مع السادات وإعلان شنودة عدم الاحتفال بالأعياد، لرفضه تطبيق أحكام من الشريعة على الأقباط، "فالتوقيتات لها أسبابها، كما أن الكتاب كان يتم توزيعه على الشخصيات الرسمية".

في المحاضرة نفسها، قال شنودة عن الكتاب "لم يحدث أن حارب أحد الكنيسة مثل هذا الكتاب، ولم يحدث أن شتم أحد الكنيسة مثلما شتم فيها هذا الكتاب"، وأراد شنودة التقليل من اهتمامه بالكتاب فقال "لم أقرأ الكتاب عندما صدر، لأنني أهتم بالشأن الروحي، لكنني اشتريته ليكون في مكتبتي، ثم قرأته عندما أعيد نشر ملخصه عقب خلافي مع السادات في مقال لمكرم محمد أحمد".

كان متّى المسكين معلما لشنودة في بداية رهبنة الأخير، ورغم الخلافات التي بينهما فإن الأب متّى قال عن شنودة في تصريح لمجلة تايم الأميركية (Time) عام 1981، "هو أفضل بابا متعلم في تاريخ الكنيسة". لكنه أضاف "كان تعيين شنودة بداية المشكلة، فالعقل حل محل الإلهام، والتخطيط محل الصلاة. في السنوات الأولى (يقصد من اعتلاء شنودة الكرسي البابوي) صليت من أجله، لكنني أرى الكنيسة تتجه من سيئ إلى أسوأ بسبب سلوكه"، هذا التوصيف دفع متّى المسكين إلى مقابلة السادات قبيل اعتقالات سبتمبر/أيلول 1981، ورشح له 5 أسماء تتولى شؤون المسيحيين الأرثوذكس بدلا من شنودة، وهو الأمر الذي يسمح لشنودة بالطعن في دوافع كتابات متّى المسكين.

اختصاص المسيحية والكنيسة

في كتابه "الكنيسة والدولة" يشير المسكين إلى 3 أبعاد تحدد اختصاص المسيحية، والغرض من ذلك "هو معرفة اختصاص المسيحية كديانة تحتاج إلى خدمة وكرازة (تبشير)، وبالتالي معرفة اختصاص الكنيسة بصفتها مسؤولة عن المسيحية. ثم على ضوء معرفة اختصاصات الكنيسة نبحث في حدود نشاط الكنيسة بالنسبة للدولة، والغاية (…) هي أن يعرف المواطن المسيحي ما له وما عليه تجاه الكنيسة والدولة".

في البعد الأول "لمن جاء المسيح؟" يجيب المسكين، بأنه جاء إلى "الخطاة (…) إن أخطر عدو يهدد كيان المسيحية بالانحلال هو أن يهتم الكارزون (المبشرون) في الكنيسة بموضوع آخر غير خطية (خطيئة) الإنسان فيتركوا عنهم دعوة المسيح للخطاة التي كانت مهمته الأولى والعظمى، وينشغلوا بالإنسان من جهة حياته الاجتماعية. هذا ليس خروجا عن المسيحية فحسب، ولكنه مقاومة".

أما البعد الثاني حسب متّى المسكين "غاية المسيح من خلاص الخطاة"، هو "الدخول في ملكوت الله"، وهذا الملكوت ليس ملكوتا زمنيا بل هو روحي يجده الإنسان بداخله، ووفقا للعقيدة المسيحية فإن المسيح -عليه السلام- لم يقبل بأن يكون ملكا، لذا يقول المسكين "محاولة الكنيسة الاهتمام بالأمور الزمنية باسم المسيح هو بمثابة تنصيب المسيح ملكا على الأرض".

أما البعد الثالث "وسيلة خلاص الخطاة"، فهي "المناداة بالتوبة"، ويرفض الأب متّى المسكين أي وسيلة أخرى للخلاص غير المناداة بالتوبة، "وكل وسيلة أخرى مثل ترغيب الناس بالهدايا أو بالأكل أو بالملابس أو بالمسليات، تعتبر كلها وسائل غير مشروعة"، وهذه الوظائف التي نشطت فيها أسقفية الخدمات الاجتماعية، التي أفرد لها المسكين موضوعا منفصلا.

الخدمة الاجتماعية في الكنيسة

حذّر متّى المسكين من الصدام بين الدولة والكنيسة بسبب أسلوب الخدمة الاجتماعية في الكنيسة، فقال إن "الخدمة الاجتماعية لا تقف عند حدود، فهي تنازع الحكومة في كل الميادين، فتشمل رعاية الشباب اجتماعيا، وتوجيههم، وتثقيف العمال وفحص أحوالهم ومطالبهم، والعناية بالطلبة الغرباء، وإقامة النوادي والمعسكرات المحلية والدولية، وترتيب المؤتمرات لبحث المشاكل الداخلية والخارجية للشباب وحالات التعطل والفقر، وإقامة الملاجئ والمستشفيات والجامعات، فإذا علمنا أن أي نظام للحكم لا بد أن يكون له اتجاه خاص ومخطط معين في التوجيه الاجتماعي لهذه الفئات المذكورة، فنحن نرى أنه يتحتم في جميع هذه الأحوال أن تكون الكنيسة دارسة لنظام الحكم، حتى يكون مخطط الكنيسة غير متعارض مع مخطط الحكومة، وإلا فالصدام بين الكنيسة والحكومة أمر لا مفر منه"، بحسب المسكين.

تجدر الإشارة إلى تكرار البابا شنودة في محاضراته عن متّى المسكين أن حديث الأخير عن الخدمات الاجتماعية تأليب للدولة على الكنيسة، كما أنه كان بغرض الهجوم على أسقف الخدمات الاجتماعية الأنبا صموئيل، فدوافع متّى المسكين ليست روحية بل كانت شخصية، ويدلل على ذلك باللجنة التي شكلها البابا كيرلس السادس في الستينيات بعضويته، لمراجعة كتاب "المواهب الكنسية" الذي قال فيه متّى المسكين، إنه لا فرق بين القس والأسقف في الكنيسة الأولى، فلم يقم شنودة بكتابة التقرير، ثم سأله البابا كيرلس بعد فترة عنه فاعتذر عن كتابته وقال له: "لو كان أسقفا لما قال ذلك الكلام".

علاقة الكنيسة بالحكام والمواطنة

ينتقل المسكين بعد ذلك، ليتحدث عن ارتباط الكنيسة بالحكام، وهو أكثر ما أغضب شنودة منه، فكتب المسكين "فكان لما يضيق بها (الكنيسة) الأمر تلتجئ إلى الملوك ليقووا سلطانها، ولكن بقدر ما كانت الكنيسة تستمد القوة من الملوك، بقدر ما كانت تفقد قوتها الروحية، (…) وبقدر ما كانت تتخلص من أعدائها بقوة السيف، بقدر ما كان يتسلط السيف عليها. كم مرة ضلت الكنيسة الطريق وخاب رجاء المسيح فيها؟ كم مرة هجرته كملك لتطلب رحمة الملوك بذلة العبيد؟".

ثم يقول في معرض حديثه عن عدم الاكتراث بالنظام السياسي في الدولة "يعتبر الاستهتار بالسلطان الزمني تشجيعا للشر والأشرار، ولكن لا يزال هناك خطر بعيد المدى يتسبب من حض الرعية على الاستهتار بواجباتهم تجاه السلطان الزمني بحجة أن الكرامة والخضوع والولاء هي لله فقط، وبالتالي طبعا للكنيسة (…) بذلك يدخلون في روع المؤمنين أن الله عدو لقيصر، والمسيحية عدوة للدولة والوطنية".

ويتحدث الأب المسكين عما يسميه "مسؤولية المواطن المسيحي تجاه أنظمة الحكم"، إذ رفض بوضوح التوجيه الكنسي للمسيحيين، وإن كان قد ألزم الأفراد بمسؤولياتهم كمواطنين، وقال "المواطن المسيحي لا يستطيع أن يعتمد على مسيحيته في التهرب من واجباته الوطنية، لأن في ذلك إساءة لمسيحيته وتحميلها ما لا تطيق، فالمسيحية -وبالتالي الكنيسة- ليس لها اتجاه خاص في أنظمة الحكم، ولا تناصر وضعا اجتماعيا أو سياسيا، ولا تمالئ أي نظام إن كان حسنا ولا تقاومه إن كان رديئا، ولكنها تعمل ما هو أعظم من ذلك كله، فهي تهب أولادها حرية كاملة ليتصرف كل واحد منهم في أمور الدنيا حسب أصول الدنيا، دون أن يجرح ضميره المسيحي".

والمراقب للأوضاع الكنسية خاصة عقب يناير/كانون الثاني 2011، يجد أن هناك توجهات كنسية في عمليات التصويت، مع كل استحقاق انتخابي، مثل قول البابا تواضروس عن دستور 2014 "نعم تزيد النعم"، وهو أمر قد يكون مخالفا لرؤية المسكين، بل قد حذر منه كما سبق في حديثه عن الاستقواء بالملوك.

الطائفية والتعصب

كذلك حذّر الأب متّى المسكين من التعصب الديني، واعتبر أن "المسؤول الأول عن التعصب الديني، هم القادة والمعلمون الذين لا يراعون المستوى النفسي للمتدين، والذين يلقنونه الحقائق الإيمانية دون نقاش، (…) ولكن يلزم أن نعترف بالحقيقة المرة وهي أن معلمي الدين كثيرا ما تنقصهم المعرفة".

ثم يختم كتابه بمقال عن الطائفية والتعصب، ويعرف الطائفية بأنها "تعني أن يستيقظ في الإنسان وعي استقلالي بجنسه أو دينه أو عقيدته تحت دوافع صحيحة أو غير صحيحة، تجعله يسلك مسلكا سلبيا تجاه من لا يشاركه في جنسه أو دينه أو عقيدته، ثم تحت إلحاحات هذه الدوافع والإثارات إما ينطوي على نفسه ليتفادى المصادمة، وإما ينطلق يهاجم ويصادم -بوعي أو دون وعي- المصدر الذي يستشعر عدوانه والذي يثير قلقه باستمرار، (…) ونستطيع أن نقول إن سلاح التهديد الاقتصادي في إثارة الفتنة الطائفية أقوى بكثير من سلاح التهديد الديني الخالص".

قبيل ختام محاضرة البابا شنودة عام 1991 قال: "القصة لم تتم فصولها"، وبعد وفاة الأب متّى المسكين بـ3 سنوات، قام بزيارة دير الأنبا مقار، الذي كان مقرا لمتّى المسكين وموضع نفوذه، وكان مستقلا ماليا وإداريا عن بقية الكنيسة، ويرتدي رهبانه زيا مختلفا عن بقية رهبان الكنائس المصرية، وأنهى شنودة في هذه الزيارة الاستقلال المالي والإداري للدير ووحد قلنسوة الرهبان، كما جعل تبعية الدير له مباشرة، بعد استقالة رئيسه قبل زيارته بشهرين.

المصدر : الجزيرة