"حياة وأخلاق يسوع الناصري" لتوماس جيفرسون.. "تجديف" الأب المؤسس لأميركا ضد تأليه المسيح

Thomas Jefferson, the third president of the United States
توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال وثالث رئيس للولايات المتحدة (مواقع التواصل)

على الرغم من أن كاتب إعلان الاستقلال والرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية توماس جيفرسون كان أحد رموز الحرية الدينية في بلاده، فإن معتقداته الشخصية كانت بعيدة عن التيار المسيحي السائد لدرجة أن خصومه في الانتخابات الرئاسية عام 1800 رموه بالإلحاد، وهي التهمة التي عنت الكثير في الولايات المتدينة الناشئة آنذاك.

وإذ يميل اليمين الديني لتبجيل الآباء المؤسسين للولايات المتحدة ومنهم جيفرسون الذي سمح باستخدام مبنى الكابيتول للخدمات الكنسية كل يوم أحد، يمثل النهج غير التقليدي لصاحب كتاب "حياة وأخلاق يسوع الناصري" موقفا صادما للكثير من المسيحيين في الولايات المتحدة منذ تأسيسها وحتى الآن.

قبل 200 عام تقريبا، أكمل جيفرسون كتابه المعروف باسم "إنجيل جيفرسون"، وأزال منه أجزاء من الكتاب المقدس كان معظم الأميركيين ينظرون إليها، في ذلك الوقت وحتى الآن، على أنها "تاريخ مقدس" للسيد المسيح.

رأى جيفرسون الأشياء بشكل مختلف، فعلى الرغم من أنه كان يعتقد أن بعضًا من العهد الجديد يقدم "نظامًا من أسمى الأخلاق التي قيلت من فم الإنسان"، فإنه اعتبر بعضا منه نتاجًا لما سمّاه "الاحتيال"، مضيفا "من الأسهل فصل تلك الأجزاء عن استخلاص الماس من القمامة".

نُظر لجيفرسون باعتباره مثقفا تنويريا وعقلانيا، لكنه اعتبر نفسه مسيحيا في الوقت ذاته، مشددا على القواعد الأخلاقية للسيد المسيح، ومعتبرا أن قرابة ألفي عام من تراكم الاعتقاد بالخطيئة الأصلية و"الأساطير" حجبت هذه المدونة الأخلاقية الفريدة، بحسب اعتقاده.

Book, The Life and Morals of Jesus of Nazareth
نسخة من مخطوطة جيفرسون التي سمّاها "حياة وأخلاق يسوع الناصري" (مواقع التواصل)

كتاب جيفرسون

خلال فترة ولايته الأولى كرئيس للولايات المتحدة (1801–1805)، ناقش جيفرسون مع صديقه بنيامين راش (1746–1813) رغبته في كتابة نسخة أكثر أصالة من تعاليم يسوع مما كان يُقدم تقليديا، وبحسب الموسوعة البريطانية، قام بقص العبارات المنسوبة إلى المسيح في الأناجيل من كتابين من "الكتاب المقدس للملك جيمس" ولصقها في دفتر قصاصات من 46 صفحة يلخص "فلسفة يسوع الناصري"، وكان يأمل في أن تعزز هذه الخلاصة الأخلاقية الفضائل بين المواطنين الأميركيين، ومع ذلك، فقد شعر أيضًا أنه تم القيام بذلك "على عجل" وأن هناك حاجة إلى نهج "علمي" أكثر صرامة.

ربما بدأ جيفرسون في التحضير لهذه المراجعة الأكثر صرامة للنصوص المقدسة في وقت مبكر من عام 1804 أو 1805، لكنه أجرى معظم التحرير بعد عقد من الزمن بما في ذلك مراجعة ترجمات إنجليزية وفرنسية ويونانية ولاتينية مختلفة، وقام بقص نصوص من كل واحدة منها على حدة ولصقها في دفتر قصاصات في أعمدة متوازية تقدم سردًا، بدأ بميلاد المسيح، وقصته، لكنه حذف كل ذكر للمعجزات، ونبوءات العهد القديم (الكتاب المقدس العبري أو التوراة) التي حملتها التقاليد المسيحية، وبما في ذلك مولده من السيدة العذراء وعقيدة القيامة.

وباستخدام شفرة الحلاقة والصمغ، قطع جيفرسون ولصق ترتيبه لمقاطع مختارة من نسخة فرنسية ونسخة الملك جيمس من أناجيل متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا في مقتطفات ضمن ترتيب زمني لبناء السرد، واكتملت خلاصة جيفرسون المكونة من 84 صفحة، حوالي عام 1819، وقام بتغليف دفتر القصاصات بالجلد الأحمر، ولم يشر أبدًا إلى عمله على أنه كتاب مقدس، وشاركه مع عدد من أصدقائه، لكنه لم يسمح أبدًا بنشره خلال حياته.

أخلاق المسيح

اعتقد توماس جيفرسون أن أخلاق المسيح كانت الأفضل في العالم، لكنه لم يؤمن أن يسوع هو إله، وكتب لصديقه بنيامين راش (طبيب وسياسي أميركي وأحد الموقعين على وثيقة إعلان الاستقلال) "أنا مسيحي، بالمعنى الوحيد الذي كان [يسوع] يريد لأي شخص أن يكون عليه".

واعتقد جيفرسون أن العهد الجديد قد كتبه رسل غير متعلمين أساؤوا فهم المسيح وكتبوه من الذاكرة بعد فترة طويلة مما سمعوه وأساؤوا تقديم تعاليمه، ولهذا جمع بنفسه النصوص التي اعتقد أنها تعبر بشكل أفضل عما أراده المسيح، كما قال في رسالة إلى الكيميائي والفيلسوف والوزير الإنجليزي جوزيف بريستلي.

ويقول مؤرخون إن جيفرسون تأثر بتيار العقلانية والتنوير الفرنسي، خاصة في الفترة التي شغل فيها منصب سفير الولايات المتحدة من 1785 إلى 1789، إذ عاش بمنزل في الشانزليزيه وأعجب بباريس وفنونها وأصبح ضيفا معتادا على مجالس ثقافية عديدة في العاصمة الفرنسية، وعلى الرغم من قربه من النخب الفرنسية وطبقة النبلاء، فإنه انحاز للثوار عندما اشتعلت أحداث الثورة الفرنسية عام 1789.

كتاب توماس جيفرسون جرى توزيعه على أعضاء الكونغرس خلال النصف الأول من القرن الـ20 (مواقع التواصل)

سيرة متنوعة

ولد توماس جيفرسون في 13 أبريل/نيسان 1743 بولاية فرجينيا لأسرة تعمل في الزراعة وهو الثالث ضمن 10 أبناء. ودرس في معهد وليام وماري الذي تخرج فيه العديد من الرؤساء الأميركيين، واشتغل بالتدريس في المعهد نفسه.

عُرف جيفرسون بفصاحته، إلا أنه لم يكن خطيبا جماهيريا بل كان يغلب عليه الصمت، فقد اشتهر في برلمان فرجينيا ومؤتمر القارة بكتابته عن المسألة الوطنية أكثر من أحاديثه حولها.

انتخب عضوا للكونغرس، وكتب أثناء ذلك مسودة إعلان الاستقلال التمهيدية، كما وضع قانونا يضمن الحرية الدينية طُبّق سنة 1786، وتقلد منصبا وزاريا في حكومة الرئيس جورج واشنطن، إلا أنه استقال منه عام 1793 بسبب الخلاف مع ألكسندر هاملتون.

نمت في عهد جيفرسون خلافات سياسية عنيفة، كما برز الحزبان الجديدان، حزب الفدراليين وحزب الديمقراطيين الجمهوريين المعروف حاليا باسم الحزب الديمقراطي.

وتنامى الخلاف السياسي عام 1800، وبرز جيفرسون أثناء تلك الأحداث خصما للاستبداد، وكتب في ذلك رسالة مشهورة.

خفّض من النفقات العسكرية والميزانية العامة، واتخذ إجراءات عديدة قلص بها الديون الأميركية بمعدل الثلث، كما سعى إلى الحفاظ على أميركا محايدة إبّان الحرب الفرنسية البريطانية، مما أدّى بفرنسا وبريطانيا إلى تأييد سياسة بلاده المحايدة، وتوفي عام 1826 بعد قرابة العقدين من انتهاء فترة رئاسته الثانية.

أرقام مثيرة

وفي استطلاع جديد للرأي اعتبرت أغلبية طفيفة من البالغين الأميركيين أن المسيح عيسى -عليه السلام- كان معلمًا عظيمًا (لا أكثر) خلال حياته، ويعني ذلك أن أكثرية المستطلعة آراؤهم لا يرون أن المسيح كان "إلها"، وفق المعتقد المسيحي السائد الذي يعتبره مستحقا للعبادة.

وفي تغطيتها للاستطلاع -الذي أجرته "ليجونير ميينيسترز" (Ligonier Ministries) (منظمة مسيحية دولية غير حكومية وغير هادفة للربح)- قالت صحيفة "نيوزويك" (Newsweek) الأميركية، إن النتائج تدعم قول العديد من القادة الدينيين الذين يقولون إن المسيحيين اليوم "يبتعدون عن التعاليم الإنجيلية التقليدية".

ووفق تقرير سابق لصحيفة "ذا كريستيان بوست" الأميركية (The Christian Post)، فإن استطلاع عام 2020 -الذي أجرته Ligonier Ministries، وهي منظمة غير ربحية تابعة للكنيسة الإصلاحية ومقرها فلوريدا- وجدت أن 52% من البالغين الأميركيين يقولون إنهم يعتقدون أن "يسوع" المسيح ليس إلهًا، وهو اعتقاد يتعارض بحسب الكنيسة مع التعاليم التقليدية للكتاب المقدس، التي تنص على أن "يسوع" كان إنسانًا وإلهًا في الوقت ذاته، بحسب اعتقادهم.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية