"لوكاندة بير الوطاويط" للمصري أحمد مراد.. رواية بوليسية تمزج التاريخ بالفانتازيا

غلاف لوكاندة بير الوطاويط
رواية "لوكاندة بير الوطاويط" للكاتب أحمد مراد الصادرة حديثا عن دار الشروق وصلت لقائمة الأكثر مبيعا في مصر (الجزيرة)

كعادة الروايات التي يكتبها الكاتب المصري أحمد مراد (ولد في القاهرة عام 1978)، وصلت روايته الصادرة حديثا عن دار الشروق إلى قائمة الأكثر مبيعا في مصر. وشهدت هذه الرواية التي تحمل عنوان "لوكاندة بير الوطاويط"، عدّة طبعات في فترة قياسية، وذلك كان حال رواياته السابقة. خاصة إذا عرفنا أنّ الرواية الثالثة لمراد (الفيل الأزرق) كانت الأكثر مبيعا في معرض القاهرة الدولي عام 2013، قبل أن تصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2014.

تمتاز هذه الرواية الجديدة بعدّة ميّزات تجعلها الأكثر قربا من ذائقة طبقة واسعة من قرّاء العربيّة؛ فهي رواية بوليسيّة في المقام الأول، إذ يعثر القارئ خلال أكثر من 200 صفحة على جرائم قتل تحدث بشكل وحشيّ ومتسلسل، كما أنها تعتمد على وجود محقّق يُحاول كشف مرتكب هذه الجرائم، وقبل ذلك فهم الرابط الذي يجمع بين الضحايا لكي يتوصّل إلى خيط ما يُرشده إلى ذلك.

حيلة روائية

من جهة أخرى، يمكن اعتبار هذه الرواية رواية تاريخيّة؛ فأحداثها لا تجري في الوقت الحالي بل عام 1865، حيث تم تقديم الرواية على أنّ مادتها هي يوميّات وُجدت بالمصادفة أثناء ترميم "لوكاندة بير الوطاويط" المجاورة لمسجد "أحمد ابن طولون" بحي "السيدة زينب"، حيث تم العثور على هذه اليوميات "مدفونة وراء حائط الغرفة رقم 7 بالطابق الثالث في مبنى اللوكاندة، ومحفوظة بشكل جيد".

بمعنى أن مراد استخدم هذه اليوميات من أجل كتابة هذه الرواية. ولكن هذه الملاحظة الجوهريّة التي استُخدمت في متن العمل كذلك، يمكن أن تكون حيلة لكي يوهم القارئ بأنه يعيد معالجة "مادة خام" عثر عليها صدفة، حيث يكتب كاتب اليوميات الأساسي "سليمان السيوفي" في منتصفها للحكيم الذي طلب منه ذلك: "ولتكن تلك اليوميات التي طلبتَ مني كتابتها، وثيقة تاريخيّة، وسجلا أمينا لما حدث في المعركة الأرضيّة القمريّة بين العبد لله والهجين، والتي دارت رحاها بدءا من سنة 1865".

ولكي يزداد هذا الإقناع، يبدأ العمل من المقطع 35 من اليوميات، وهو القسم الذي يكتبه سليمان السيوفي قبل أن يُقدم على الانتحار، وكأن ما كتب قبل هذا المقطع قد تُلف أو ضاع، أو ربما لا أهميّة له في سرد حكايتنا هذه.

ولكن هذا المقطع يشرح المعركة الأساسية التي تقوم عليها الرواية، فهو يشرح ما جرى بين المصوّر والمحقّق ومكلّم الحيوانات والجثث "سليمان السيوفي"، وبين "الهجين" الذي هو كائن غير أرضيّ، يسكن القمر بعد انفجار كوكبه، ويتحيّن الفرصة لقتل السيوفي نفسه. وعندما تحدث حوادث القتل المتتالية يظن السيوفي أنّ القاتل هو الهجين القمريّ الذي يتوعّده.

حدوث الجريمة الأولى والطلب منه أن يبحث عن منفذها، دفع السيوفي لتأجيل انتحاره. السيوفي الذي هو شخص مجذوب -أي من الصوفيّة التي تبذل دنياها من أجل آخرتها- وكذلك من المجانين الذين يلفتون الأنظار، ولكنه يحاول أن يكون له من اسمه نصيب؛ بأن يصبح مثل النبي سليمان عليه السلام، ذي الملك العظيم والقدرة الربّانيّة النادرة في فهم ومخاطبة الحيوانات.

سليمان السيوفي يورد في يومياته وابتهالاته لله تعالى، العديد من قصص الأنبياء ومعجزاتهم والمحن التي امتحنهم بها الله، فيبدو أنه ذلك الشخص الذي لا يملّ من انتظار الوحي لتنصيبه نبيّا، في زمن جاء بعد زمن انتهاء النبوّة! كما يكتب ويتمنى في أكثر من قسم من تلك اليوميات.

جرائم متسلسلة

بعد أن يكتب سليمان وصيته ويستعد لشنق نفسه، تأتيه زيارة من "داغر بك" الذي يكلّفه بالتحقيق في مقتل أحد الباشوات. وهكذا يؤجّل سليمان انتحاره لما بعد كشف تفاصيل الجريمة الوحشيّة، ولكن هذا التأجيل سيتأجّل مرات كثيرة، لأنّه يكتشف أن هناك قائمة بالقتل، بعد أن يُقابله القاتل "المشاعلي" في إحدى مرّات تحقيقه في الجريمة، ويكاد القاتل يقتل سليمان، ولكن قبل لفظه أنفاسه الأخيرة يتركه يعيش، بعد أن يعده بأنه سيكون المقتول بعد انتهاء قتل الأشخاص السبعة في قائمته!

الرابط بين الضحايا

كان على السيوفي كمحقق أن يبحث عن ذلك الرابط بين الضحايا في تلك الجرائم المتسلسلة، فوجد أن كل الشخصيات التي في القائمة هي شخصيّات ثرية جدا، ولها وزنها في الطبقات العليا من سلطات الدولة. ومع توالي الأحداث، ومن خلال تحقيق سليمان الذكي، نكتشف أن آباء الضحايا كانوا من المقربين جدا من الوالي "محمد علي باشا"، وكانوا وراء الفكرة الجهنميّة في قتل المماليك وأمرائهم ونسائهم وأطفالهم في المذبحة الشهيرة باسم مذبحة القلعة.

وهنا نعثر على الصفة الثالثة التي تميّز هذا العمل، وهي الوحشيّة؛ حيث يستخدم فيها القاتل أساليب الحرق والقطع وثقب رأس الضحيّة "بالخنافس تحت قدْرٍ مُحكم، دسّ السيانيد في التبغ، وقطع الرأس بسيف ثم تعليقه في باب القلعة"، وهي الأساليب التي تدلّ على طرق المماليك في القتل. ولكن هل سيكون القاتل من أبناء أحد الناجين من تلك المذبحة؟

الغرائبية والفانتازيا هي الصفة الأخرى التي تميز عمل مراد هذا، فسليمان السيوفي يبدو شخصا يُعاني من الاختلال العقليّ، مع تربيته "عنبر"، وهو ذبابة تكبر وتكبر حتى يضطر لسجنها في الغرفة المجاورة لغرفته.

في أحد الأقسام، يكتب السيوفي عن قتله لأمه، ودفنها ضمن جدار غرفته في اللوكاندة، بينما هي تظل على قيد الحياة، ولو في جملة واحدة من الرواية، وتشتكي من عقوقه بها!

هذا الاختلال يجعل الفانتازيا تتسرّب إلى جسد العمل هنا وهناك، لتحكي لنا قصصا هامشيّة لا تُثقل على العمل، بل تزيده استرسالا.

مراد ينجح في زرع الرعب داخل قارئه، وهو يسرد عليه وحشيّة القاتل تجاه ضحاياه، والتنكيل بهم بشكل غريب. بينما السيوفي نفسه يُعاني من ثعابين تجري داخل دمه وتأكله من الداخل! وكذلك لا ينقطع خيط السرد عندما يشرح مراد شغل بطله في التصوير وإظهار الصور وتشريح جثث الضحايا، ومعاناته الشديدة من اقتراب تنكيل الهجين به.

خبرات سينمائية

استفاد أحمد مراد كذلك من دراسته للسينما -وقد كان الأول على دفعته في القسم- في هيكلة هذه الراوية، فهي تتخفّف كثيرا من الوصف والشاعريّة، ولكنه عوّضها بأشياء أخرى كالأمثال الشعبيّة والقصص والشخصيّات الثانويّة التي جعلت هذا العمل خفيفا على القارئ ومثيرا في ذات الوقت.

هذا البناء جعل هذا العمل قريبا لسيناريو سينمائيّ، ويُوضّح ذلك الإثارة التي تجعل القارئ يريد لو يُنهي العمل في مشاهدة أو قراءة واحدة، وهو ما يُحسب لصالح هذا العمل. هذه الخبرات الدراسيّة لدى مراد ساهمت في تحويل عدة أعمال سابقة له إلى أفلام سينمائية، مثل "تراب ألماس" و"الأصليين" و"الفيل الأزرق" بأجزائه الثلاثة.

وفي حوار سابق مع الجزيرة نت، قال أحمد مراد إن "السينما تقدم رؤية مغايرة للرواية، وجهة نظر تعتمد على استخدام تقنيات الصورة والصوت، تلك التي تفتح للقارئ عالما آخر من التوحد مع الشخصيات والإحساس بالمكان، وتوفر للرواية انتشارا بين أوساط غير القراء، مما قد يدفعهم يوما للاهتمام بالقراءة".

ومعلقا على استخدامه الجريمة كمحرك أساسي للأدب، اعتبر مراد أن "الجريمة تصنع التباين في منحنى التاريخ الاجتماعي للإنسان، ولا يعنيني من قُتل، قدر اهتمامي بدراسة الأسباب وما وراء الحدث، فقصة قابيل وهابيل مثلا ليست أدب جريمة، بل هي قصة الطمع والخطيئة."

وربما هذا التفكير السينمائي جعل لغة العمل هي أقرب للمزاج الشعبي، مع الأمثال الشعبيّة والشتائم العاميّة التي تُعطي نكهة جيّدة للعمل. وهي ميزة باتت تميز الأعمال الروائية المصرية في العقدين الأخيرين.

المصدر : الجزيرة