شعار قسم مدونات

العنف الجنسي خلال الصراعات، الدوافع والآثار

هناك شهادات موثقة حول حوادث العنف الجنسي ضد النساء الفلسطينيات (غيتي)

احتل موضوع العنف الجنسي مساحة مهمة في واجهة الأحداث منذ السابع من أكتوبر، وذلك بعد تقديم العديد من الروايات الغربية والإسرائيلية التي تتحدث عن "وحشية" مزعومة و"انتهاكات جنسية" قامت بها عناصر المقاومة الفلسطينية، واستثمرت مجلة النيويورك تايم هذه القضية من خلال عرض تقرير استقصائي أثار الكثير من الجدل، وتعرض للكثير من النقد بسبب وجود العديد من الثغرات وغياب الأدلة، حيث اعتبر في إطار الأجندة الإسرائيلية التي اخترعت هذه القصص لحشد الدعم وتبرير الإبادة الجماعية.

وعلى الطرف الفلسطيني المقابل، انتشر العديد من الروايات في الشهر الماضي، والتي أشارت إلى انتهاكات جنسية متنوعة لا تقف عند حدود الاغتصاب، قام بها الجنود الإسرائيليون استهدفوا بها النساء الفلسطينيات، وخرجت تقارير أممية وثقت بعض الحوادث، إضافة إلى بعض الشهود الذين نقلوا ما سمعوه على القنوات التلفزيونية.

ولست في سياق إنكار حدوث مثل هذه الانتهاكات التي طالما حفل التاريخ بها، ولكن برزت العديد من التساؤلات في ذهني حول الدوافع التي تدفع بالجنود لاقتراف مثل هذه الجرائم، خاصة في ظل مثل هذه الظروف العنيفة والقاسية ومع وجود تهديد مستمر بالخطر، الأمر الذي دفعني للمزيد من البحث والقراءة في محاولة للوصول لفهم أعمق لهذه الظاهرة.

تاريخيا، اعتبر الاغتصاب أحد السلوكيات المقبولة ضمن قواعد الحرب مثل التعذيب والاحتجاز ونهب المدن، وتم استخدامه كأحد أدوات الحرب النفسية الذي يقصد كسر شوكة العدو وإرهابه، ووسيلة لقياس النصر، ودليلا على رجولة الجنود ونجاحهم.

سيكولوجية العنف الجنسي، من وجهة نظر المقاتلين والضحايا

ناقشت العديد من الدراسات الأكاديمية والنفسية الدوافع وراء تكرار الانتهاكات الجنسية خلال المعارك الشرسة، حيث وصل بعضها إلى أن العنف الجنسي وخاصة الاغتصاب خلال الحروب لا يتعلق بالرغبة الجنسية، وإنما بالرغبة في إثبات السلطة وفرض السيطرة والإذلال، فهو يشكل نموذجا من أشكال الإرهاب وإثارة المخاوف والهلع بين المدنيين والذي يدفع نحو نزوح جماعي وهروب، بالإضافة إلى الضغط على المقاتلين بالإحساس بالذنب أو خلال الاستجواب وحتى دفعهم للاستسلام.

تاريخيا، اعتبر الاغتصاب أحد السلوكيات المقبولة ضمن قواعد الحرب مثل التعذيب والاحتجاز ونهب المدن، وتم استخدامه كأحد أدوات الحرب النفسية الذي يقصد كسر شوكة العدو وإرهابه، ووسيلة لقياس النصر، ودليلا على رجولة الجنود ونجاحهم، خاصة مع النظر للمدنيين، وتحديدا النساء، كغنيمة مشروعة أو كسبايا يقمن بالخدمة أو كمكافأة وحوافز إضافية تعويضية للجنود، فعلى سبيل المثال لم يكن الاغتصاب بالنسبة للجيش الروماني أداة للإشباع الجنسي أو لإدارة الغضب فقط، بل كان يعتبر حقا مشروعا للمنتصر، ويرمز إلى الانتقام والقهر واستعباد المهزومين وإعلان النصر.

وفي العصر الحديث تطورت النظرة العسكرية لهذه الانتهاكات، رغم تطور القوانين والاتفاقيات الناظمة للسلوك خلال الحروب واستهجان هذه الأفعال أخلاقيا وقانونيا، فقد استخدمت أشكال العنف الجنسي كاستراتيجية عسكرية ضد العدو، وكوسيلة لربط الجنود وخلق شعور بالتماسك داخل الوحدات، خاصة عندما يتم تجنيد القوات بالقوة.

في بعض الأحيان، قد تلجأ المجتمعات المنكوبة للتهويل في الحديث عن هذه الانتهاكات، والمبالغة في الأعداد وسرد القصص والشهادات غير المنضبطة، وذلك بهدف إثارة الانتباه وخاصة انتباه وسائل الإعلام الغربي التي تتلقف مثل هذه الأخبار بالكثير من النهم والاهتمام

وبالنظر إلى هذه الانتهاكات الجنسية من وجهة نظر نفسية، يشير الخبراء إلى أنها تخلق لدى الجنود مشاعر فورية وإحساسا مفرطا بالقوة والإنجاز، كما أنها تنشئ مكانة وسمعة للعدوانية ترهب العدو، وتعزز الشعور بالرجولة من خلال الترابط والتفاخر خاصة في حالات الاغتصاب الجماعي، عدا عن كونها تظهر نموذجا للتفاني ضمن المجموعة والرغبة في تحمل المخاطر.

أما بالنسبة للضحايا، يلجأ معظمهم، نساء ورجالا، إلى التحفظ وإخفاء تعرضهن للاغتصاب، خاصة إن لم تعرف عن هذه الحادثة أو تشتهر، ونادرا ما يتجرأ الضحايا على تقديم شهادات علنية، أو السعي نحو تحقيق العدالة وملاحقة الجناة قانونيا، نظرا لصعوبة تحقيق هذا الأمر، ولما لهذه الحوادث من آثار ووصمات اجتماعية طويلة المدى تتعدى حدودها الضحية.

ولكن، وفي بعض الأحيان، قد تلجأ المجتمعات المنكوبة للتهويل في الحديث عن هذه الانتهاكات، والمبالغة في الأعداد وسرد القصص والشهادات غير المنضبطة، وذلك بهدف إثارة الانتباه وخاصة انتباه وسائل الإعلام الغربي التي تتلقف مثل هذه الأخبار بالكثير من النهم والاهتمام، في محاولة يائسة لاستغلال هذا الزخم الإعلامي والضغط على الطرف المعتدي لإيقاف عدوانه، أو استثارة المجتمعات الأخرى وحضها على التحرك تحت ستار حماية الشرف والعفة وإنقاذ البقية.

آثار متعدية على الفرد والمجتمع

تخلف أشكال العنف الجنسي المطبق على المدنيين أو العسكريين تأثيرات جسدية ونفسية يصعب التعامل معها في الكثير من الأحيان، فإلى جانب الأذية الجسدية والكسور التي تترافق مع حالة الجبر والإكراه، وقد تنتهي هذه الانتهاكات بالقتل أو بالتشويه أو حتى بالانتحار، وفي بعض الأحيان قد تحدث عمليات الاغتصاب بحضور الزوج أو أفراد العائلة وشهودهم على الحادثة، أو حتى مشاركتهم فيها، وقد يتم تصويرها ونشرها، متسببة بكابوس لا يقتصر أثره على الضحية فحسب، بل يدمر العائلة والشهود

كما قد تتسبب هذه الانتهاكات بإعاقات وصدمات وآثار نفسية طويلة الأمد وقد تكون مدمرة، تتجلى في ارتفاع وتيرة الخوف والعجز والحزن والارتباك في المستقبل، وحدوث حالة من العزلة والضعف واليأس والاكتئاب، عدا عن اضطرابات ما بعد الصدمة، وكراهية الذات والإحساس بالعار والغضب وصعوبة العودة للحياة الطبيعية.

وإلى جانب ذلك يواجه الأطفال المولودين نتيجة هذه الانتهاكات أشكالا متنوعة من الوصمة والتمييز في زمن الحرب، ومشاكل تتعلق بالهوية والانتماء بعد الحرب، وهو ما يضاعف العبء النفسي الذي يواجه الضحايا والمجتمع، وقد تلجأ بعض النساء إلى الإجهاض أو الانتحار أو قتل المولود أو التخلي عنه، أو هجره، كما قد تبدد فرص الزواج المستقبلية للضحايا.

تتعدى تأثيرات أشكال العنف الجنسي الأثار الفردية إلى الآثار المجتمعية، حيث تؤثر ظاهرة الاغتصاب الممنهج خلال الحروب على هيكلية المجتمعات، وتتسبب في عزلة بعض الفئات ووصمها، مما قد يدفع بعض العائلات للتخلي عن الضحايا، فتفقد بذلك دوائر الدعم الأسري والمجتمعي، بالإضافة إلى زيادة معدلات الإقصاء والوصم الاجتماعي، وضعف الخدمات الصحية والنفسية الاختصاصية، وانتشار الأمراض المنقولة جنسيا، وغياب سبل الانتصاف للضحايا.

ويمكن للخوف السائد من الاعتداء الجنسي أن يعطل الهياكل الاجتماعية ويؤدي إلى تآكل الثقة بين أفراد المجتمع، كما يعزز الشعور بالتهديد والخوف ويقوض سلامة المجتمع وتضامنه، عدا عما يمكن أن يتسبب به من صدمات جماعية تصيب المجتمع بأكمله مع انتشار هذه الممارسات بشكل واسع، وهو ما يؤدي إلى إطالة أمد عملية التعافي بعد انتهاء الصراع.

يفترض بنا في المجتمعات العربية التي تعلي قيمة العائلة والشرف إنتاج منظومة قانونية محكمة تعمل على التوثيق والتحقق من هذه الحوادث

لقد حددت المحكمة الجنائية مجموعة من أشكال العنف والانتهاكات الجنسية في النزاعات المسلحة، تشمل الاغتصاب والاستعباد الجنسي والدعارة القسرية والحمل القسري والتعقيم أو الإجهاض القسري بالإضافة إلى التشويه أو التعذيب الجنسين، وتم الاعتراف بالاغتصاب كجريمة ضد الإنسانية لأول مرة عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة وللمرة الأولى أوامر اعتقال في عام 1993، بغرض الملاحقة القضائية تحت عنوان التعذيب والاستعباد كجريمة ضد الإنسانية.

ورغم قساوة وحساسية هذه الجريمة، إلا أن الإفلات من العقاب والتساهل في ملاحقة المعتدين ساهم بانتشار هذه الانتهاكات وشيوعها، والتعامل معها وكأنها أمر واقع لا مفر منه، رغم آثارها العريضة الممتدة زمنيا واجتماعيا، وعليه يفترض بنا في المجتمعات العربية التي تعلي قيمة العائلة والشرف إنتاج منظومة قانونية محكمة تعمل على التوثيق والتحقق من هذه الحوادث، والسعي الدؤوب لملاحقة مرتكبيها والتضييق عليهم وهو أقل واجب وتعويض يمكن أن نقدمه للضحايا، كما يفترض بنا مرجعة منظومتنا الفكرية والثقافية التي تلاحق الضحية بالوصم والعار والنبذ والعزلة، وتوقع بها عقوبة مضاعفة تزيد من ضعفها وعجزها، والسعي لتوفير الخبرات الصحية والنفسية القادرة على تقديم المساعدة والدعم من جهة، والتوعية المجتمعية تجاه هذه المسائل وإزالة اللبس عنها من جهة أخرى.

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.