شعار قسم مدونات

المعرفة والتشكل المجتمعي!

تحريض غير مسبوق على فلسطينيي 48 من قبل المؤسسة الإسرائيلي والمجتمع اليهودي في ظل الحرب على غزة
تحريض غير مسبوق على فلسطينيي 48 من قبل المؤسسة الإسرائيلي والمجتمع اليهودي في ظل الحرب على غزة (الجزيرة)

في اتجاهات البعد الاجتماعي (فسيولوجيا) تتشكل المعرفة الإنسانية من خلال ما يحيط بالكائن البشري من مؤثرات ومكونات للمكان الذي يألفه ويتآلف معه مشكلا جملة من التفاعلات المتجانسة أو المتناقضة أو المتقاطعة عبر الاختلاف في استيعاب انتماءاته الإنسانية أولا ثم العقدية والتي تعطيه التشكل الأبعد في إثراء وجوده؛ وإحساس الطرف الآخر به بقدر ما تمثله العلاقات الضدية أو المتماثلة من انصهار في يومياته عبر ممارسات سلوكية تؤطرها قواعد الكتاب المنظور في شكلها العام، فيما يسيرها ويخيرها في ذات الوقت الوحي الرباني الذي جاء في الكتاب المسطور وما تضمنه لأدق التفاصيل التي تنظم علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الجماعة بالكون.

الاعتماد على القوة البدنية في تفاعل العلاقات الإنسانية فيما بينها لاعتقاد الكثيرين بأنها السبيل نحو التميز وتحقيق الأفضلية، هو اعتقاد سيء ولا يمكن الرضوخ لتك الفكرة عند رسم التهيئة والتنشئة العقلية

إن إحاطة الإنسان بما يدور حوله هي النزعة المعرفية التي تدفعه إلى فهم تشابك وتعقد المصالح البشرية التي لا تبتعد في كثير من أحداثها عن شر الاستبداد والاستعباد وخطورة النظرة الأحادية المتجسدة في فهم قاصر ودوني لأحقية الحياة لجنس دون آخر أو فئة دون أخرى، على الرغم من أن الأحداث التاريخية والقصص والعبر حاولت أن تكون نتاجا يستدل به ويدفع البشرية إلى شيء من فهم مآلات تلك الصراعات وما تفضي إليه من فساد وانتهاك للحقوق، إلا أن النظرة العمياء وتشكلات الأنا عمقت الشعور بالأفضلية باعتبارها البنائي أو التكويني، حيث كانت إرهاصاتها تقوم على إحداث الفِرقة من أجل استحكام التسيد الذي يراد له البقاء في عموميات الحياة.

إن الاعتماد على القوة البدنية في تفاعل العلاقات الإنسانية فيما بينها لاعتقاد الكثيرين بأنها السبيل نحو التميز وتحقيق الأفضلية، هو اعتقاد سيء ولا يمكن الرضوخ لتك الفكرة عند رسم التهيئة والتنشئة العقلية، كما أنه لا يجب الانزواء للهيمنة الجسدية إذ أنها تقترب وتتماثل مع الحيوان، ومهما كان انتشارها وسطوتها وسيطرتها إلا أنها تبتعد عن مسارات التحضر البشري، وتوقد نزعة السيطرة العمياء التي أودت بأحوال الناس إلى أدنى من الوضع الحيواني، حيث أصبح الإنسان بمخبره ومظهره لا قيمة له، فسالت الدماء أنهارا كأنها ماء دون حرمة ولا احترام، على الرغم بأنه أي الإنسان كرم بعقله وفكره الذي يجب أن يوجه قواه العضلية نحو الاتزان النفسي واستيعاب ما حوله عبر حياة منظمة ومتوافقة، لذلك فإنه من الضرورة الاعتماد على العقل في قيادة الجسد، ولا يمكن لقوة أن تعمل منفردة عن الأخرى.

لقد باتت الأحداث العالمية في مختلف العصور المشكل الرئيس للانتماءات الفكرية، إذ أن المعرفة التي تولدت لدى الإنسان عبر القوى العقلية الموجهة للقوى العضلية أصبحت الوجه الآخر الذي يقود الإنسان إلى فهم متقاطع يتطلب فيه إثبات انتماءاته في "حدود" معينة وعدم البوح برغباته إذا كان الهدف التحرر من ربقة الاستعمار الذي اعتمد على قوة الشر وتبني مبدأ الأفضلية أو الوصي الذي أتاه الوحي، والذي تجلّت لديه الرؤية فأصبح وأمسى على تكريس القوة مما عززت لدية "سادية" الدماء، والرغبة الجامحة في إشعال نار الحرب مهما كلفه الأمر وفق رغباته البرجماتية، لذلك فإن البياض الأعظم ممن وقعوا ضحية ذلك الافتراس هم على بينة من الأمر، إلا أن القائمون عليهم أو الحامون لحماهم لم يكونوا أهلٌ لتك الحمى لأنهم من أمثال "الرويبضة" وأجناس نشأت وتربت على ذات الفكرة وحب السيطرة.

اكتسب الإنسان المعرفة حول ما يدور في أوساطه عبر التحليل والتمحيص لبلوغ الحقيقة، وقد ساهم الإعلام بمختلف وسائله في التملص من قيد التحكم، ومواجهة الواقع بجرأة وانكشاف وتشكيل حائط صد ضد النفوذ التي تبنت السيطرة وسعت إلى إراقة كرامة الإنسان واستباحت أعراضه من أجل أن تعيش هي أي لغة السيطرة وتتسيد بكل وقاحة وصفاقة، وبدورها فقد زادت الأحداث الأخيرة من تشكل المعرفة أو الوعي الذي ينصهر بين الإنسانيات الحديثة (نفسيا واجتماعيا) للإنسان بعيدا عن انتماءه العقدي، بهدف الخروج من حالة التشظي البشرية والانعتاق من شرور التعبية والتخلف الذي قيد العقل البشري ودفع به إلى فقدان ذاته لعدم وجود ما يوقظه ويعيده إلى واقعه الذي أزكمته رائحة البارود وسادت لغة الدم في محيطه، لذلك فإن المعرفة قبل الـ 7 من أكتوبر ليس هي بعدها، حيث أظهرت لنا تلك الأحداث الكثير من علامات الاستفهام التي تدور حول من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ وإلى أين ذاهبون؟ وجملة من الأسئلة التي أعادة وشكلت المعرفة البشرية تحت مسمى "أحرار العالم".

نزعة الضمائر المعتلة والأفكار المختلة عززت شعور الأنا عند كثير من السواد الأعظم في المحيط العربي والإسلامي، خاصة بين الأنظمة التي كبحت جماح التغيير، وبالتالي لم تكن وقفة الاستجابة حتى من الناحية الدبلوماسية واضحة أو بذات قواها العقلية أو الجسدية

إن الخروج من حالة السكون التي تدار بأجهزة التحكم وعدم الوعي بما يحيط بنا من أحداث إلى حالة المعرفة والإحاطة والمشاركة في اختيار المناسب دون إملاءات، يعتمد على مقدرا فهمنا للواقع الذي تسيره آلة الحرب ضد انتماءاتنا الإنسانية، لذلك فكل الكوارث التي نعيشها والهزائم التي تتوالى علينا ما هي إلا بسبب حالة التلبد الفكري التي حشرنا فيها عنوة وارتفاع مؤشرات التواطؤ والخوف لدينا، وبالتالي فقد أصبح الأمر جليا لتلك الأحداث بأن الكيان المغتصب للأرض يسمى "إسرائيل"، لكن ليس هو وحده، بل السواد الأعظم من الإدارات في العالم هي الداعم القوي والحقيقي له وأوضحت انحيازها التام له، بل اتضح جليا بأن تلك الإدارات هي المساهم الأقوى في تزويده بعتاد الحرب، وليس بآخرها تلك التي قدمتها الإدارة الأميركية لنتنياهو دون أخذ موافقة الكونجرس حسب ما أشارت إليه وسائل الإعلام.

إن نزعة الضمائر المعتلة والأفكار المختلة عززت شعور الأنا عند كثير من السواد الأعظم في المحيط العربي والإسلامي، خاصة بين الأنظمة التي كبحت جماح التغيير، وبالتالي لم تكن وقفة الاستجابة حتى من الناحية الدبلوماسية واضحة أو بذات قواها العقلية أو الجسدية، بل عكست التواطؤ الذي يكشف المخططات المرسومة ضد الشعب الفلسطيني، فالكثير من التشكلات السياسية العربية والإسلامية لم تحرك مواقفها السياسية والاقتصادية قيد أنمله تجاه تلك الإبادة، ولم تكن ردة فعلها القشة التي يتعلق بها الرأي العام ليدفع برأيه وانتماءاته نحو التعبير بحرية إزاء ما يحدث، وكثير من الشوارع العربية والإسلامية لم تستطع أن تقدم براهين على تواجدها ولأي الفريقين تنتمي، حتى تتمكن من تعزيز انتماءاتها وتكون الورقة التي تشكل الحالة الدبلوماسية عند تلك الأنظمة لمخالفة حالة الصمت الذي شكل معرفة عند أحرار العالم بأن جميع الإدارات العالمية إلا ما رحم ربي متفقة على تغيير خارطة الأحداث بالموافقة على حالة التطهير والإبادة لشعب فلسطين، وتهجيرهم القسري وإعادة فكرة الشتات تلبية لرغبة العصابة الصهيونية.

باعتبار أن حالة المعرفة تعيش بين ازدياد ونقصان حسب الأحداث أو مقدار جدية الاهتمامات التي تشغل العقل الجمعي، إلا أن قسوة الأحداث الأخيرة وخاصة مجزرة مستشفى الشفاء هي التي لا يمكن أن تتناثر في الذاكرة كتناثر الأشلاء وتكون في طي النسيان، ومن المؤكد وغيرها من الأحداث يجب أن تحول حالة المعرفة والإدراك الجماعي إلى قوة فاعلة ومتغير يوجه الجماعات نحو اتخاذ قرار على أرض الواقع؛ لأنها الأكثر وقعا من حيث تشكيل ورقة ضغط على الأنظمة في زيادة وجدية الموقف الدبلوماسي إن كانت تتمسك بأدنى درجات المصداقية، وإصلاح العطب الذي أصاب الوعي والمعرفة الجمعية عند أحرار العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.