شعار قسم مدونات

فاطمة.. طفولة تحت الأنقاض!

Israeli attacks over Gaza
طواقم الدفاع المدني تبحث عن الضحايا تحت الأنقاض في غزة​​​​​​​ (وكالة الأناضول)

مازالت الصغيرة فاطمة لا تعرف ما حدث، لكن صوتها الذي كان يملأ المكان بالصراخ لم يعد يصل مسامع جدها الواقف قريبا من المنزل المدمر. فقبل عشرة أيام خرج الجد المكلوم من تحت ركام المنزل الذي مازال جسد الرضيعة فاطمة تحته، وكذلك جسد أمها وأخويها الصغيرين عبد الفتاح وأمل، وعمها عمر، فضلا عن جواد الولد البكر لابن عم والدها أحمد، أما والدها أحمد فقد تم الوصول إلى جسده قبل بضعة أيام وكذلك بقية الشهداء الأربعة عشر، وجميعهم من أقارب فاطمة الذين لم تعرفهم بعد. لقد أكملت للتو شهرها السابع عندما تلقى جسدها الطري ثلاثة أسقف من الأسمنت قبل دقائق من أذان الفجر الأول من شهر رمضان المبارك.

لكن فاطمة تعرف قطعا من فعل هذا الفعل الجبان، وتعرف أن حسابه أمام الله لن يكون يسيرا، وأن الطائرة التي احتمى بها وأطلق منها قنابل حقده الأعمى لن تنفعه ولن تحميه من عذاب الله.

أدرك قادة الاحتلال، وعلى رأسهم من كان يظن أنه آخر ملوك بني إسرائيل بنيامين نتنياهو في ذلك اليوم، أن كل أحلامه قد تبخرت خلال بضع ساعات.

تلك واحدة من قصص العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة أوردتها لأنها قصة عائلة أخي عبد الفتاح وأخي مفيد، ولكنها أيضا نموذج متكرر من المجازر التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة منذ خمسة أشهر ونصف، والتي حصدت عشرات الآلاف من الشهداء، بينهم أكثر من عشرين ألفا يشبهون فاطمة وأخويها وأمها. والأرقام التي توردها المؤسسات الرسمية الفلسطينية لأعداد الضحايا من الشهداء والجرحى لا يمكن تصديقها نظرا لضخامتها كما أنها تثير الكثير من التساؤلات حول سر هذه الهمجية الإسرائيلية ومبرراتها، إن كان يمكن العثور على أي تبرير لقتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال في القرن الحادي والعشرين.

في الحقيقة ليس هناك تحت أي ظرف من الظروف ما يبرر قتل طفل واحد أو امرأة واحدة مهما كانت الأسباب، ولكن ثمة ما يفسر ردة الفعل الهمجية للاحتلال الصهيوني الممتدة منذ السابع من أكتوبر على مدى ما يقرب من نصف عام.

فقد أدرك قادة الاحتلال، وعلى رأسهم من كان يظن أنه آخر ملوك بني إسرائيل بنيامين نتنياهو في ذلك اليوم، أن كل أحلامه قد تبخرت خلال بضع ساعات.

وأحلامه تلك هي التي قدمها ضمن حزمة وعوده الانتخابية وأعيد انتخابه على إثرها هو وحفنة من المتطرفين اليمينيين الصهاينة أمثال بن غفير وسموتريتش.

وعلى رأس تلك الوعود أن دولا عربية وإسلامية كثيرة تصطف في طابور طويل خلف المملكة العربية السعودية، وستسقط تباعا في حبائل التطبيع، وهو ما سيجعل من الكيان مهيمنا بلا منازع على المنطقة من خلال المنافع الكثيرة التي سيجنيها من فتح هذه الأسواق الكبيرة أمام منتجاته، خصوصا من التكنلوجيا والسلاح وغير ذلك.

همجية المستعمر وهيجان الدب سيطر على نتنياهو ومن حوله دفاعا عن مملكتهم الضائعة وسمعتهم التي داستها أقدام الحفاة من مقاتلي غزة، فاندفع نحو انتقام لم يعرف التاريخ له مثيلا بدلا من أن يحتفظ بصورة الضحية التي بنت إسرائيل مجدها وقوتها من خلال التمسك بها

ومع أن احتمالات العودة إلى التطبيع لم تمت، ويتكرر التعبير عن الرغبة بها والاستعداد لاستئنافها بين الفينة والأخرى خصوصا من العراب الأميركي، والذي لا يخفي حرصه ذلك، ليس من أجل خدمة نتنياهو أو الكيان الإسرائيلي فقط، وإنما من أجل مصالحه أيضا التي ستتحقق تلقائيا إذا اندمج حلفاؤه في الشرق الأوسط وتعاونوا في مواجهة دول وقوى غير مرغوبة مثل تركيا وإيران.

ومع ذلك فلن تجري الرياح كما يريد الملاح حتى لو نجحت الخطط الأميركية في استئناف التطبيع، لأن الشكل النهائي الممكن حاليا لهذه العملية لن يكون إطلاقا هو نفس الشكل الذي خطط له في البداية، فالخطة الأولى كانت مبنية على أساس أن إسرائيل هي النجم الصاعد، وأن المطبعين الجدد وكذلك من سبقوهم يحاولون التعلق بها لترفعهم معها، وهي صورة انتهت تماما مع سقوط أسطورة الأمن والجيش الذي لا يقهر عندما انتشرت كالهشيم صور العبور الكبير لنخبة القسام، وما فعلته بفرقة غزة من أفاعيل يوم السابع من أكتوبر.

ربما كان من الممكن أن يتغلب الاحتلال على خسائر ذلك اليوم لو فكر بنوع من التعقل والحكمة وامتص الهزيمة ووضع سيناريوهات متنوعة للتعامل مع اليوم التالي، غير أن همجية المستعمر وهيجان الدب سيطر على نتنياهو ومن حوله دفاعا عن مملكتهم الضائعة وسمعتهم التي داستها أقدام الحفاة من مقاتلي غزة، فاندفع نحو انتقام لم يعرف التاريخ له مثيلا بدلا من أن يحتفظ بصورة الضحية التي بنت إسرائيل مجدها وقوتها من خلال التمسك بها، باعتبار أن المحرقة كانت ومازالت مبررا للبكاء الدائم واستجلاب تعاطف ودعم الغرب الذي تجاوب بشكل دائم مع هذه البكائية وغض الطرف عن جريمة احتلال فلسطين واضطهاد وتشريد وحصار شعبها وانتهاك مقدساتها وحرماتها وسرقة أرضها وخيراتها.

سرعان ما خسر الاحتلال صورته أو علامته التجارية باعتباره الضحية، وتحول مع مرور الوقت واستمرار المجازر الوحشية إلى مجرم حرب ومرتكب لأبشع جرم تنظر فيه محكمة العدل الدولية، وهو جرم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

سيستمر البحث تحت الأنقاض لاستخراج جسد فاطمة وبقية أفراد أسرتها رغم قلة الإمكانيات والمعدات القادرة على تعجيل تلك العملية في مدينة غزة التي باتت تفتقر لكل شيء حتى كسرة الخبز وحفنة القمح.

غير أن الأشد قسوة من ذلك، أن الأهداف الثلاثة التي أعلن عنها نتنياهو ومجلس حربه لم يتحقق منها شيء حتى كتابة هذه السطور، كما تعمقت جراح الجيش الذي لا يقهر من نفس المقاتلين الحفاة الذين قدموا نموذجا في المقاومة لا يقل إبداعا عن مشاهد الهجوم والاقتحام لما يعرف بمستوطنات غلاف غزة، كما قدم أهل غزة صورا في الصمود واحتضان مقاومتهم أبهرت العالم وعمقت جراح الاحتلال وكرست شعوره بالعجز في معركة ظن أنها مجرد نزهة قصيرة.

سيستمر البحث تحت الأنقاض لاستخراج جسد فاطمة وبقية أفراد أسرتها رغم قلة الإمكانيات والمعدات القادرة على تعجيل تلك العملية في مدينة غزة التي باتت تفتقر لكل شيء حتى كسرة الخبز وحفنة القمح. وسيحمل جدها عبد الفتاح المثقل بآلام الفقد جسدها الصغير ليضعها بحنان إلى جانب بقية أفراد أسرته، ويصبر ويتجلد كما كل فلسطيني شامخ في هذه المعركة، ليكون بذلك صخرة جديدة تسقط على صدر الاحتلال الغاشم وقادته الجبناء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.