شعار قسم مدونات

رمضان.. عزلة أم التئام وتوافق؟

صلاة التراويح بالمسجد الأقصى في الليلة الأولى من رمضان
الامتناع عن الأكل والشراب وسائر المفطرات هي الغاية التي ندرك بها أنفسنا بأننا نخوض غمار الصيام (مواقع التواصل الإجتماعي)

من اللافت بأن الأقدام تحث الخطى بكثرة نحو المساجد في شهر رمضان في نصفه الأول. أقدام أصابها ظمأ الوقوف في صفوف متراصة بغاية واحدة وهدف واحد، تهتز أركان المسجد بأطيب التلاوات وأعذب الأصوات، ترفع الأيادي وتلهج الألسن بالدعاء باحثة عن ساعة الاستجابة وقليلها موقن بها، وبعض العيون اغرورقت بالدموع من شوق الخشوع. المصاحف تتناثر بين جنبات المسجد؛ تقلب صفحاتها قراءة وتأمل وتدبر، والنفوس تتقارب والأرواح تتهاوي إلى سكينة تغشاها رحمات الشهر الفضيل. يحلق الرجاء في فضاءات القبول، والصدقات تؤدى نحلة في أهلها، وهذا من حيث الشكل والصورة التي تنقل عبر التشابك الإعلامي ومنصات التوافق والتنافر، وكثير من أحاديث العابرين في مقاهي الاستراحة الرمضانية المستيقظة حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وما بين المددين موائد عامرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، كذلك تنقلها العدسات عبر الصور والمقاطع، وتصبح فنون الطبخ سلعة رائجة وبضاعة واسعة، وتمضي الأيام لتصبح كمثيلاتها من أيام مضت.

هذا الشهر لا يختلف عن باقي السنوات المنقضية منذ 100 عام، ومع كل هذا إلا أن الرباط في صيام الشهر كما أمر الله هو الحبل المتين الذي علينا أن نفتح به صفحات العودة وتحرير المكتوب بلغة نفقه معناها ونطبق فعلها قبل قولها.

فالامتناع عن الأكل والشراب وسائر المفطرات هي الغاية التي ندرك بها أنفسنا بأننا نخوض غمار الصيام، وأننا بدأنا نعد العد التنازلي بعد انتهاء رحلة عمل اليوم أو نوم حتى بداية موعد الإفطار، وعند المنتصف يبدأ العقل الباطني في عده التنازلي والتكهن بموعد العيد والاستعداد الأكبر ضخامة وثراء من حيث كمية الاستهلاك، والكثير يحاول أن يبتعد عن التفكير في مسألة الصيام بأنها عادة وعدة تأتي في الشهر مرة واحدة يستشعر عبرها آلام الفقراء وضنك المشردين من حيث البعد النظري ويحاول الاقتراب من بعده الإنساني الذي شغلته الحياة على مدار أحد عشر شهرا معظمها تناحر ودسائس لم تستطع السماوات والأرض حملها، فقابلها ذاك الضعيف العجول بفهم قاصر وعمل ناقص يبحث من خلاله عن رخص الدين وسرعة الوصول دون كلفة في العمل أو العبادة التي تتفطر لها الأقدام، إنه الإنسان المتناقض معه ذاته قبل غيره، والمتسلط على ذاته قبل الآخر، كل ذلك من أجل رحلة البقاء التي لم تفرق بين الأعمال الصالحة والطالحة.

يحل علينا هذا الشهر ونحن نعيش رمضاء التوافق والوقوف صفا واحدا كالاصطفاف في صلاة التراويح أو التهجد، تفرقنا الاختلافات ويدفعنا التناحر إلى هوة سحيقة لا يلوح في الأفق التئامها، فامتدادنا الإسلامي والمتقارب جغرافيا لم يعترف باختلاف الأهلة ومواقيت دخول الشهور، فعلى الرغم من توسع علوم الفلك وتطورها إلا أننا ما زلنا نراهن على العين المجردة التي لم تتوافق مع عدة الشهور في كثير من شهور استطلاع الرؤية حتى وإن غم علينا، وهذا الخلاف متواتر ومتكرر باختلاف واختلال المواقف التي تدفع بالتئام الجرح الغائر في بلاد المسلمين، وبها تشتت الشمل وانكسرت الشوكة التي تجاهد القلة القليلة في إعادتها والتمسك بعروتها الوثقى، لذلك فهذا الشهر لا يختلف عن باقي السنوات المنقضية منذ 100 عام، ومع كل هذا إلا أن الرباط في صيام الشهر كما أمر الله هو الحبل المتين الذي علينا أن نفتح به صفحات العودة وتحرير المكتوب بلغة نفقه معناها ونطبق فعلها قبل قولها.

نعم في غزة وفلسطين وفي بلدان أخرى كتب عليهم الصيام، وكتب عليهم القتال في آن واحد، وكتب عليهم أن يكون صدر هذه الأمة وهامتها التي يجب أن تخرجها من قهر وجور الأنظمة إلى فسحة الأمل واليقظة وأن توقد شرارة العودة والعزة التي أرادها الله لينالوا الحسنيين معا

لو بدأنا من حيث خط النار وثورة القتال غير المتكافئ فإن التاريخ يعيد نفسه فغزة محاصرة من كل الاتجاهات، بينما المساجد في المحيط المجاور تعج بالمصلين وترتفع المنابر بالأدعية على أن يعين الله المصلين على الصيام والقيام وتلاوة القرآن بينما من هم خلف الجدران يموتون جوعا وقهرا، فهم صائمون مجاهدون لا يعرفون موعد الإفطار ولا يجدون شيئا من الأسودين ليقمن أصلابهم، فلا ثلث ولا أقله ولا حتى ريحه الذي يبعث شيء من روحانية الشهر الفضيل بحسب العادة الإنسانية، فهل تلك الأدعية التي تتناسق سجعا وتبيانا لها أثر الاستجابة؟ لسنا هنا بصدد إصدار الفتوى الشرعية، وإنما نبني رأينا على فتوى القلب ومدى قربها من واقع لا يعتمد على التسويف، وما يمكن طرحه هنا: هل أولئك المصلين ساهون عن وضع الجار بالجنب؟ أم أنهم مغلوبون على أمرهم؟ لذلك ما لهم إلا الدعاء كصدقة جارية تطفئ رمضاء الشهر وتوقظ القلوب التي طوقها ران الرياء والكبر والنفاق، علها تجد شيء من السلوى وتطهّر شيء من الدنس الذي لبد مسار الأمة التي يجب تكون صوامة قوامة مجاهدة.

نعم في غزة وفلسطين وفي بلدان أخرى كتب عليهم الصيام، وكتب عليهم القتال في آن واحد، وكتب عليهم أن يكون صدر هذه الأمة وهامتها التي يجب أن تخرجها من قهر وجور الأنظمة إلى فسحة الأمل واليقظة وأن توقد شرارة العودة والعزة التي أرادها الله لينالوا الحسنيين معا، كذلك في السودان الجريح الذي بحث الفرقاء فيه عن عشبة الخلود فتقاطعت مصالحهم وجرت البلاد في أتون الحرب والتشرد فازداد الليل حلكة وسوادا وتقطعت السبل بالشعب المقدام الذي أرسل الفكر والعلم والمعرفة ضياء عندما كان خليجنا يبحث عن فتيل ضوء تنير ظلامه الدامس، فأين نحن منهم؟ وأين رد الجميل لإيقاف النزعة البربرية التي دفع ضحيتها شعب يجاهد ليقف بثرواته وثراءه الإنساني؟، نعم نستطيع بكل رحابة صدر استيعاب القادمين إلينا وإكرام نزلهم، فهم بيننا أهل البيت ونحن الضيوف، وأطفالهم نجوم تتلألأ بين أطفالنا في المدارس، وهذه ليس منة نمنها عليهم وإنما شيء قليل في حق كبير، ولنا في السودان أحبة وأهل كرام، فلا تنسوهم لأنهم أهل الطيبة والكرم والضيافة، وهل نرضى أن تتدهور سلة غذاء العرب والأفارقة؟  فكم نحن محزونون لأوضاع أمتنا، فإلى متى تتقاطع مصلحة الإنسان إن كان فعلاً هو إنسان؟

لم يعد رمضاننا من الأشهر التي يحرم فيها القتال، فهل في رمضان سنكون أمة واحدة وسط تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟ فوطننا الكبير يعيش بين المؤامرات والتدخلات، وتربص الماسونية والصهيونية ونزاع الطوائف والإثنيات

يمر شهر فضيل في عام جديد وما زلنا نعيد كرة التعامل معه كالأعوام السابقة، نصوم النهار ونندفع عند حلول أذان المغرب كالشياه لنملأ كروشنا، نتذكر قليلا حال أمتنا وننساها كثيرا عندما يشتد أزيز الأطباق، فنرسل أدعيتنا بنفوس متخمة لا رجاء فيها ولا ذل ولا انكسار أمام جبار السماوات، نؤدي فروضنا بعقول نائمة وقلوب لاهية لا تعرف الخشوع، نبحث عن تسلية وقتية وسط كم من الأفلام وقصص المخدرات والخداع والحب المرفوض وواقع إعلامي يهتم بعمليات التجميل وبرامج تبحث عن إثارة الخلاف والبروبوجاندا الرخيصة، يستضاف عبرها "الرويبضات" وأمثالهم ومن على شاكلتهم، نمارس التنويم الفكري ضد أجيالنا نلصق القدوة في أفواه الغوغائيين والمراوغين اللاهثين خلف شهرة الجسد وعفانة المال، نتحدث عن الوقت وفنون الإدارة بينما نحن نائمون في حالة يقظة ولا نملك الوقت بمعناه الحقيقي، نغوص في زحام الحياة الرخيصة باحثين عن التقليد الأعمى الذي لم يمنحنا هوية ولا خصوصية.. فأصبحنا كالغراب الذي لم يستطع أن يعود لمشيته وطبيعته.

في رمضان لا حروب ولا هروب من نصرة المظلوم؛ كعادة العرب، إلا أن عصرنا وقع في الحرب بأعداء لم نعرفها بشكلها الجلي، وأعداء عرفناه بأسمائهم وسيماتهم، فلم يعد رمضاننا من الأشهر التي يحرم فيها القتال، فهل في رمضان سنكون أمة واحدة وسط تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟ فوطننا الكبير يعيش بين المؤامرات والتدخلات، وتربص الماسونية والصهيونية ونزاع الطوائف والإثنيات، وها نحن نعيش في علاقات مرتبكة ملتبسة لا تأمن غدر القربى، ولا تعرف في رمضان إلا الامتناع عن سائر المفطرات.. فهل لشهر رمضان حرمة؟ وهل رمضان عزلة تبعدنا عن حاجة الآخر؟ أم التئام وتوافق وعودة؟ فليس العبرة في كبر المسبحة وتناسق ألوانها مع ساعة اليد، وإنما العبرة في لبنة القلب وصلاح المضغة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.