شعار قسم مدونات

الارتقاء المنهجي إلى المنظومة المقاصدية

رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ علي القره داغي (الجزيرة)

الدافع لكتابة هذا المقال وموضوعه هو الكتاب الذي صدر حديثا ومضمونا واتجاها للدكتور علي محي الدين القره داغي "رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، بعنوان" الإرتقاء من مقاصد الشريعة إلى المنظومة المقاصدية"، ليست غاية المقال هذا قراءة للكتاب الممتع، بقدر ما هو تعريف بالموضوع ولفت الأنظار إلى أهميته، حيث الحاجة الى الدفع بالفكر الإسلامي إلى الأمام، أو إعادة صياغة القديم النافعِ للحاضر في قوالب منهجية جديدة بما يخدم الرؤية الإسلامية للحياة وبنائها.

هو كتاب في باب المقاصد، يعتمد على ما بدأ يلاصق -مؤخرا- المنتجات العلمية للأستاذ المؤلف "فقه الميزان" لكنه يتناول مجالات معرفية عدة بالارتكاز على علم أصول الفقه ومقاصد الإسلام العامة، هنا أتعرض إلى الجانب الفكري منه وشمول المقاصد له حيث أن الكتاب عمل منهجي يتسع لعلوم الشرع والفكر وميادين التنمية والعالم المادي المحسوس.

كل ما هو مسجل في مؤلفات المقاصد منذ "إمام الحرمين الجويني" لغاية الآن وفق ضوابطه الشرعية منطلقا وغايات، كله صحيح ومعتبر، لكن بما أنه علم استنبطه العقل الإسلامي المنضبط، ومراجعته من البدهيات.

١- الحديث عن الارتقاء المنهجي وجعل المقاصد منظومة وليس علما محددا محصورا يعتبر مراجعة لهذا العلم وتقييم له، ليس مراجعة تشخيص الأخطاء كما هو في التفكير النقدي السلبي، فكل ما هو مسجل في مؤلفات المقاصد منذ "إمام الحرمين الجويني" لغاية الآن وفق ضوابطه الشرعية منطلقا وغايات، كله صحيح ومعتبر، لكن بما أنه علم استنبطه العقل الإسلامي المنضبط، ومراجعته من البدهيات، المراجعة من أجل تشخيص مواطن النقص أو تلبية الحاجات المتجددة نظرا لتطورات الحياة.

٢- إنها توسعة لعلم المقاصد، ومغادرة الدائرة المعروفة تاريخيا بمقاصد الشريعة، إلى تحديد الغاية من كل أمر ونهي وإرشاد ونص، مقاصد الله تعالى في خلق الكون وفي خلق الإنسان والملائكة وفي إنزال الكتب وإرسال الرسل وهبوط الإنسان إلى الأرض، وبهذا تكون مقاصد الشريعة المعروفة مكونا واحدا من هذه المنظومة وليست كلها، فهي "(ربط الجانب الفكري) التصورات و(الجانب العملي) التصرفات كلها بمقاصد الخلق (للكون، والإنسان)، ومقاصد الشريعة العامة والخاصة والجزئية، ومقاصد المكلفين ونياتهم وفقه المآلات وسد الذرائع". وكذلك الجانب العقدي وخلق الملائكة والجن والكون والإنسان والجنة والنار. وبهذا خرج من الإطار التقليدي وعد منها ثمانية، السابع منها هو "مقاصد الشريعة" إضافة إلى مقاصد المكلفين التي وضعها في النوع الثامن. وإلى جانب المقاصد الخمسة – أو الستة –، فقد وضع مقصدين آخرين وهما " أمن المجتمع، وأمن الدولة" وبذلك يجعلها ثمانية بالاعتماد على العنصرين اللذين ينبغي توفرهما عند تحديد المقصد وهما جانبا الإيجاب والسلب.

إن قضية العلة وكونها من المقاصد أم لا، أو هل يمكن أن يكون المقصد علة للحكم، قضية خلافية دقيقة بين أهل الإختصاص، جعل الأستاذ علي القره داغي العلة من ضمن المقاصد، والمقصد المنضبط في غير الأمور العبادية التي هي توقيفية ولا يمكن القياس عليها يمكن أن يكون حجة للمفتي يقيس عليه وللمجتهد، وبهذا المعنى تشمل المقاصد العلة والحكمة والأسرار، كما أن فقه المآلات وسد الذرائع وفتحه من مكملات المنظومة المقاصدية.

٣- هي تعميق لعلم المقاصد، والعودة به إلى الغاية من خلق الكون والإنسان، يقول:" المنهجية الصحيحة في نظري أن يبدأ علم المقاصد بمقاصد خلق الإنسان الشاملة لكفتي ميزانه، وهما كفة التعبد الخالص والشعائر وكفة العمران بمعناه الشامل"، وهنا قد يكون الفرق بينه وبين غيره في الترتيب والتبويب، فهناك من خاض في هذا المجال، لكن من دون الخروج عن التصنيف التقليدي للمقاصد.

٤- محاولته رفع المقاصد إلى ما وصل إليه الفكر الإسلامي المعاصر ويخوض صراعا مريرا حوله، وهو الجانب الحضاري، ما يسميه مستمدا من التعبير القرآني بـ "العمران"، لأن مقاصد الشريعة بصورتها المعهودة تنحصر في المقاصد العامة والخاصة والجزئية التي تركز على الأحكام الشرعية، فهي تمثل "مقصد التقديس والتسبيح" ولا تتناول الكفة الثانية المتمثلة في "مقصد العمران" الطرف المكمل للمهمة الأساسية والغاية من خلق الإنسان المحددة بـ "الخلافة" في شقيها العبادي والعمراني، الشيخ القره داغي يلاحظ غياب مقصد العمران لدى الكثيرين ممن كتبوا عن المقاصد حيث ركزوا على الكليات الخمس أو الست، والعمران هو بناء الحياة وتعمير الإنسان والأرض وفق المنهج الإلهي على قانون التسخير والاستعمار، فكما أن البحث عن القوانين الحاكمة في حركة الكون كله من مهام العقل وهي ترشد الإنسان في جانب منها إلى وجود الخالق الواحد والتعرف على صفاته، كذلك من أجل التعرف على طبيعة هذا الكون لرسم الخطط التي من خلالها تعمر الأرض وتكون صالحة للحياة فيها ولائقة، حينئذ يكون علم المقاصد قد دخل دائرة الصراع الحضاري مع الآخر الذي يبني الحضارة بناء منزوعا منه العمران المعنوي للإنسان، الكفة المكملة لمقصد العمران.

ومما تحدث عنه محاولا تبيين دور المنظومة المقاصدية في توجيهها مجالات الاقتصاد والصيرفة والعقود والتنمية والوقف والبيئة والحوكمة. وكلها من المفاهيم الفكرية الحديثة تتعلق بحركة الحياة.

إن المنظومة المقاصدية لا تنتجها إلا عقول الكبار، وعلم الكبار المطلع على الموضوع بدقه وجله، مادة ممتعة للعقل، مريحة للنفس، أخرجت العلم الضروري من دائرة الخواص وأسلوبهم إلى صياغة مرنة سلسة، مع الاحتفاظ بالدقة في التعبير والتركيز في تحديد المغزى.

قبل الأستاذ علي القره داغي، من المعاصرين من تناول أبعاد المقاصد التي يمكن الوصول إليها، كما فعل كل من الأستاذين أحمد الريسوني في" مقاصد المقاصد" وعبد المجيد النجار في "مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة"، ومد أغصانها لتغطية تفاصيل الحياة وجزئياتها قدر المتاح أمامهم، لكنهما بقيا في إطار المنهج المتعارف عليه وهو التقيد بالتقسيم والأنواع المعروفة، ومع أن الشيخ المقاصدي الطاهر بن عاشور أضاف مقصد "الحرية"، والريسوني تحدث عن مقصد "السلام" والقره داغي عن "الأمنَيْنْ"، إلا أن سطوة التاريخ في تحديد العدد والعناوين مازالت هي لم تتراجع، ومع أنها من إجتهاد البشر لكن يصعب زحزحتها لقوتها الغالبة ورسوخها، فهذا الكتاب واللجوء إلى تعبير "المنظومة المقاصدية" هو كسر تجديدي لهذه الهيمنة مع الإبقاء عليها نوعا رئيسا مكونا لهذه المنظومة، أي أن مقاصد الشريعة المعروفة بهذا العنوان ليست سوى جزءا من دون أن يكون كُلّاً فهي محاولة جادة لتشكيل إطار كلي جامع، لكنها تبقى اجتهادا.

إن المنظومة المقاصدية لا تنتجها إلا عقول الكبار، وعلم الكبار المطلع على الموضوع بدقه وجله، مادة ممتعة للعقل، مريحة للنفس، أخرجت العلم الضروري من دائرة الخواص وأسلوبهم إلى صياغة مرنة سلسة، مع الاحتفاظ بالدقة في التعبير والتركيز في تحديد المغزى، من أجل فهمه وهضمه كمكون من مكونات الفكر والثقافة الإسلامية، ودخوله كمادة معرفية في التدافع الفكري الحضاري داخل المجتمعات.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.