شعار قسم مدونات

هل المجتمع الدولي مسؤول عن حماية المدنيين في غزة؟

https://www.youtube.com/watch?v=2gmZa4esaVY
جانب من الدمار الذي سببه العدوان الإسرائيلي على غزة (الجزيرة)

أثارت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل الكثير من الجدل في العالمين العربي والإسلامي، وانقسم الناس حولها، خاصة بعد أن دعت المحكمة جميع الدول لوقف تمويل الحرب الإسرائيلية على غزة، وطالبت إسرائيل باتخاذ كل ما هو ممكن لمنع ارتكاب أعمال إبادة جماعية، دون إصدار نص صريح يطالب بوقف إطلاق النار.

ومن أبرز النقاط اللافتة في بعض النقاشات سؤال خجول حول الأسباب التي دفعت جنوب إفريقيا لأخذ زمام المبادرة والتصدي لهذا الموضوع، في وقت كان من المفترض أن يدفع به جيران فلسطين من دول عربية وإسلامية، وأسئلة أخرى دارت حول نظرية المؤامرة ومدى جدوى اللجوء للمحاكم واستصدار القوانين في وقت لا يفهم فيه العالم إلا لغة القوة.

وتلفت هذه التساؤلات النظر إلى مدى ضحالة الوعي القانوني والحقوقي في بلادنا، وعدم الانتباه إلى بعض هوامش الحركة والضغط والتأثير الممكن، والتي يمكن من خلالها تحويل جوانب من الكوارث والمعاناة إلى أدوات ضغط قانونية وسياسية يمكن أن تقوي موقف الضحايا وتحفظ حقوقهم، ولهذا كان من الضروري تسليط الضوء على بعض المبادئ القانونية الناشئة والعمل على استثمارها وتطويرها.

رغم كل المحاذير القانونية تجاه استخدام القوة بشكل منفرد، كانت هناك هوامش سمحت لبعض الدول أو التحالفات بالتدخل العسكري في دول أخرى لحماية "حقوق الإنسان"

مفهوم التدخل الإنساني وتطوراته

تتسبب الصراعات والحروب عادة بانتهاكات جسيمة في حقوق الإنسان، كما تخلف الكثير من الخسائر المادية والبشرية بالإضافة إلى موجات النزوح الداخلي أو اللجوء الخارجي، وفي بعض الأحيان تتطلب استنفار المجتمع الدولي كونها قد تتحول إلى تهديدات للسلم والأمن العالمي نتيجة توزع رقعة الصراع أو آثاره الإنسانية.

وفي حين حظر ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة العسكرية بين الدول أو التهديد بها إلا في حالات الدفاع عن النفس أو تحت مظلة الأمم المتحدة وفق البند السابع، استدعت بعض أشكال الصراعات تدخلات جديدة من المجتمع الدولي لوقف بعض الجرائم، وخاصة تلك التي تندرج تحت الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي أو جرائم الحرب.

بدأ مفهوم التدخل "لأسباب إنسانية" منذ القرن التاسع عشر عندما تدخلت الدول الأوروبية لحماية الأقليات المسيحية من " الاضطهاد" المزعوم الذي مارسته الدولة العثمانية في اليونان عام 1827 ، كما تدخلت فرنسا لحماية الأقلية الدرزية في لبنان عام 1860 ، وخلال الحرب الباردة، بدا مفهوم التدخل الإنساني لوقف انتهاكات حقوق الإنسان حلا مقبولا لمواجهة فشل المجتمع الدولي في معالجة العديد من الانتهاكات وجرائم الإبادة الجماعية، خاصة مع غياب رغبة العديد من الدول الغربية تنفيذ التزاماتها السياسية، أو نتيجة عرقلة العديد من القرارات بسبب حق النقض "الفيتو".

رغم كل المحاذير القانونية تجاه استخدام القوة بشكل منفرد، كانت هناك هوامش سمحت لبعض الدول أو التحالفات بالتدخل العسكري في دول أخرى لحماية "حقوق الإنسان"، كما هو الحال في منطقة الحظر الجوي التي فرضتها كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا في شمال العراق عام 1991، وذلك يهدف حماية الأقلية الكردية من انتهاكات حقوق الإنسان التي تسبب بها النظام العراقي، فركزت هذه العمليات على حماية المدنيين شمال العراق متجاهلة في ذات الوقت حمايتهم في جنوب العراق.

لم تلق كل من راوندا وكوسوفو نفس الاهتمام الدولي الذي أولي للعراق في ذاك الوقت، وتُرك المدنيون تحت وطأة جرائم التطهير العرقي والإثني والإبادة الجماعية، وتجاهل المجتمع الدولي الانتهاكات الكبيرة تجاه المدنيين في رواندا، ولكن قوات الناتو تدخلت في وقت متأخر في كوسوفو دون غطاء قانوني، فقد كان الهدف من هذا التدخل سياسيا، لإعادة القوات الصربية إلى طاولة المفاوضات.

وبعد انتهاء الحرب الباردة، بدأت الكثير من المراجعات نتيجة رفض جرائم الإبادة التي شهدها العالم، وبدأ الخبراء في تقييم المرحلة ومحاولة ضبط عمليات التدخل العسكري التي انطلقت بذرائع إنسانية، حتى لا تبقى غطاء لمصالح سياسية أخرى، واعتمد المجتمع الدولي مصطلح "مسؤولية الحماية" الذي حاول فيه تحميل الدول المسؤولية الأساسية عن حماية شعوبها من الجرائم مثل الاغتصاب والقتل الجماعي، والقتل والتطهير العرقي والإرهاب والتهجير والتجويع المتعمد، واعتبار أن مسؤولية الحماية تنتقل بشكل تلقائي للمجتمع الدولي عندما تكون الدولة "غير راغبة" أو "غير قادرة" على وقف الضرر الجسيم أو تجنبه، مع دعوة صريحة لتجنب استخدام حق النقض في حالات الكوارث الانسانية.

ورغم الإجماع الذي حظي به مبدأ "مسؤولية الحماية" عام 2005 ، بقي في إطار مفاهيمي دون أن تكون له قوة قانونية، وذلك لعدم رغبة العديد من الدول الغربية توسيع مفهوم التدخل الإنساني، وتحويله إلى شكل ملزم، رغبة بعض الدول إبقاء المجال مفتوحا أمام التدخلات المنفردة التي تخدم مصالحها، ولهذا بقيت استجابة المجتمع الدولي تجاه الأزمات الإنسانية متفاوتة،  فقد تدخل مجلس الأمن في ليبيا 2011 بعد شهور من اندلاع الاحتجاجات بحجة حماية المدنيين، وتجاوز حد التفويض المسموح له، وتجاهل في نفس الوقت الأزمة الإنسانية في سوريا والتي خلفت أكبر أزمة لجوء شهدتها القارة العجوز.

لم يحرك عداد الموت المتصاعد في غزة تلك الدول، ولم تثر جرائم استهداف الملاجئ والمشافي والطواقم الطبية أي حفيظة، ولم تهتم تلك الدول لفقدان الغذاء والدواء والوقود

مسؤولية الحماية في غزة والدروس المستفادة

تُرك الفلسطينيون في غزة في مواجهة أحد أكبر جرائم الإبادة والتهجير، التي تنقل لحظة بلحظة على الهواء مباشرة، وبدلا من أن يتحمل المجتمع الدولي المسؤولية المنوطة به والمتوافق عليها " مسؤولية الحماية" أمام انتهاكات حقوق الإنسان الشديدة، ويتدخل لإيقافها، تجرأت عشرة دول غربية بقيادة الولايات المتحدة على تعليق دعمهم المالي لوكالة الأونروا، المنظمة الإنسانية الأكبر العاملة في قطاع غزة استجابة لاتهامات إسرائيلية تفتقر للأدلة حول علاقة بعض موظفي الأونروا بحركة حماس.

لم يحرك عداد الموت المتصاعد في غزة تلك الدول، ولم تثر جرائم استهداف الملاجئ والمشافي والطواقم الطبية أي حفيظة، ولم تهتم تلك الدول لفقدان الغذاء والدواء والوقود، ولجوء الناس لطحن علف الحيوانات، بل رضيت حكومات هذه الدول بان تكون شريكة في جريمة الإبادة تساهم بكل الطرق الممكنة في إبادة الفلسطينيين بعد أن وافقت سابقا على سرقة أرضهم.

وبالعودة إلى مثال جنوب إفريقيا، لقد قدمت هذه الدولة التي تعلمت من محنتها السابقة درسا للعالم العربي والإسلامي في أساليب المبادرة والتأثير، وانتقلت من دور الضحية إلى دور المبادر والمؤثر في إنصاف المظلومين، واستثمرت في الأدوات المتاحة والمؤسسات القانونية، وهي تعرف أنها خاضت الطريق الطويل والشاق، ولكنه قد يؤدي إلى بصمة واضحة تساهم في التغيير.

وقد تتوقف وتيرة الحرب في الأيام القادمة، ولكن الجرائم المروعة التي شهدها القطاع خلال هذه الشهور لا ينبغي أن تمر مرور الكرام، ستظل حاضرة تبحث عمن يحاسب مرتكبها ويردعه بكل الوسائل، ولعل المعركة القانونية التي نزهد بها لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية، لأنها ستعري المجرم من ادعاءاته، وستفضح داعميه وشركاءه، وتضغط باتجاه منع تكرار المأساة ومحاربة مرتكبيها.

إن المجتمع الدولي كاملا يتحمل مسؤولية حماية المدنيين في غزة، ويتحمل مسؤولية الجرائم التي ارتكبت وترتكب ضدهم ولا ينبغي أن يسمح له بالتهرب من هذه المسؤولية، بل يفترض تفعيلها وتطويرها ويحاسب صناع القرار على كل القرارات التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في زيادة معاناة المدنيين، وهو أمر لن يحدث من تلقاء نفسه، ولا يمكن التعويل فيه على السياسيين، بل يمكن للمنظمات الإنسانية والقانونية وناشطي حقوق الإنسان حول العالم، أن يقدموا تقاريرهم ومراجعاتهم ورؤيتهم لما حدث، خاصة وأن المراجعات أسهمت سابقا في نقل بعض المبادئ إلى مستوى القوانين العرفية، وخلقت حالة من السلطة الرادعة تجاهها.

لقد صنع الوضع في غزة لحظة وعي تاريخية يفترض استثمارها على أعلى المستويات، والعمل على نقل التضامن العالمي من مستواه الشعبي إلى مستوى حقوقي وقانوني وسياسي، يحدد أركان الجريمة ومرتكبيها، ويسعى لتطوير مبدأ مسؤولية الحماية الإنسانية ونقله إلى مبدأ الإلزام، فلم يعد بالإمكان قبول حدوث هذه الجرائم مجددا، كما لم يعد بالإمكان قبول بقاء المتورطين فيها دون محاسبة، وتحتاج الشعوب أن تتعايش مع بعضها بسلام على أساس قائم على العدل واسترداد الحقوق والضرب على يد المعتدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.