شعار قسم مدونات

غزة.. رمزية الثورة والتحرر

العودة الى المنزل ولو مدمرا قرب غزة خيار عائلات فلسطينية في ظل الهدنة
عائلات فلسطينية تعود إلى منازلها المدمرة قرب غزة رغم المعاناة (الفرنسية)

التحرر من العبودية ليست نمطا سلوكيا تجاه ما يهم الإنسان فقط، وإنما هو الفضاء المليء بالعقل والمنطق في تشابك العلاقات الإنسانية المرتبطة بالأخذ والعطاء في مساق متصل أو متقطع تنظمه قوانين لا غلو فيها ولا سيطرة، ولا تنهشها أطماع القوة ولا حب السيطرة والتسيد على حساب الأخلاقيات، فالحرب في تداعياتها القريبة والبعيدة لم تعد الشيء المستغرب أو النزوة السياسية التي تجنح لها القوى العظمى بطريقة عشوائية، وإنما هي الخارطة الممنهجة وفق مصالح البقاء، تضبط إيقاعاتها خارج ساحة الحرب ويشعل فتيلها بين أحياء الفقر وجراح البشر الطامحين إلى سكينة الحياة، وتدار برؤوس أموال القربى والسائلين الذين لم يكن حظهم إلا "كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه".

موطئ القدم هو الوطن الذي توطنت النفوس فيه واستطاب العيش على ثراه، ومن البديهي أن يكون الدافع النفسي والأخلاقي هو المؤطر والمحفز في توجيه الأفراد نحو فهم تلك العلاقة للاستبسال والدفاع عن حياضه، فكلما توغلت أياد الغدر فيه تحركت المجسات لثوران الأيادي للوقوف في وجه المعتدي والتصدي لكافة الانتهاكات التي تدار ضده سواء كانت داخلية أم خارجية بحسب تشكل تلك الأطماع وتكون العداء، لذلك نجد البسطاء هم الذين يدفعون الثمن باهظا وهم من يقع عليهم وابل ولعنة الحروب، وهم الذين يحملون راية الثورة بقضها وقضيضها، أما الجالسون على الطاولة فهم الناجون في البناء الشكلي، من خلال قدرتهم على استبدال  المشاهد وفق تصوراتهم، وهم الذين يفهمون أبعاد وشكل الطاولة التي سيجتمعون عليها بحسب قوة اللاعب الأكبر "الجوكر".

تتجه فصول الإبادة في غزة إلى وقف الحرب، وذلك لما أصاب الكيان الصهيوني وأتباعه من فشل وهزيمة مدوية، لأنه بناء شيد على باطل، وما يبنى على باطل فهو باطل

إن ثوران الأحرار ضد الظلم يتجسد في عدم القبول بأنصاف الحلول وإنما البحث عن الحلول التي تتيح لهم الشعور بذواتهم بتجلي حقوقهم التي يؤدون عليها واجباتهم على أكمل وجه، فعندما تختلس يد الغدر الأوطان ينبري الأحرار ضربا وعدوا، فيشكلون حائط الصد الأول، بيد أن الآخرين ممن يتاجرون بأوطانهم يندسون تحت أغطية الهوان يراقبون المشهد ويكيلون بمكيالين، حتى تسير المعركة إلى حيث أراد الله أو حسب توقعاتهم، ثم يعودون ويجتمعون مع العدو على "كأس" واحد فيما ينال "الحر" تداعيات الحرب في كل أشكالها، وليس بدءا من القوائم السوداء التي تصنف الثائرين في وجه الظلم في قائمة "الإرهاب" أو الذين لا يستطيعون عبور الحدود، وليس انتهاء كذلك بملاحقة أجيالهم لينتقموا منهم لكسر ثورتهم وتحييدهم في قائمة المنبطحون.

مع تشكل المقاومة الإنسانية ضد الظلم على مر التاريخ نجد أن رمزية الثوار لها بقاء وتمتد عبر الأجيال حتى وإن حاول "السماسرة" إخفاءها والاحتفاء بالكماليات التي تهدف إلى ذر الرماد في عيون الحقيقة وتغيير التاريخ والمقاسات الجغرافية بناء على حاجتهم، إلى جانب بناء مناهج تعليمية هزيلة لا تسمن ولا تغني من سغبات العطش الفكري عند الناشئة، لتجعلها أكثر ارتباطا بالماديات وتبعدها عن المنطق وحق الوجود، وتعزز لديها انتماء "الشركات" وليس الأوطان بنظرة الربح والخسارة للظفر بمعيشة واهية لا تبتعد عن سد الجوع والابتعاد عن السمنة وتشكيل الولاءات التي لا تعترف بالأخلاق بالمجمل.

تتجه فصول الإبادة في غزة إلى وقف الحرب، وذلك لما أصاب الكيان الصهيوني وأتباعه من فشل وهزيمة مدوية، لأنه بناء شيد على باطل، وما يبنى على باطل فهو باطل، حتى ولو وقفت الدول المتغطرسة بمعايرها المزدوجة معه، لإن التشكل الإنساني الحر في غزة ومحيطها لم ولن يرضخ للوعود ووابل التسويفات التي برع فيها الغرب وانطلت على العرب الساعية إلى وأد حركات المقاومة المشروعة، كما أن ظروف السجن المفتوح فرضت عليهم فهم الواقع بعمق، لتأسيس حائل صد تعلم معاني المعاناة ولبس الواجب درعا لينال الحق الذي لا يمكن أن تترك مقاساته بأيدي من ينام الليل مغتبطا، نعم إنها مدرسة الأنفاق التي أنجبت ثراء فكريا وعلما تنويريا وجب التوقف عنده والتمحيص في تطبيقه حتى في "أشباه الأوطان" التي أتخمت جمهورها بالماديات.

لقد استطاعت غزة أن تكون أيقونة الثورة والتمرد، ونخرت في أعماق المسلمات التي كبلت العالم وفق "سياسة التعبيد" لتتجاوز معظم الشعوب في بناء الفكر الاستقلالي ورفض الهيمنة بكافة أشكالها، وهي تتفوق على ثورة "تشي جيفارا" الذي ظل فكره واسمه موسوم على جبهة كل مبتغي للحرية، "أينما وجد الظلم فذاك هو وطني" وهي المقولة التي وقفت في وجه الإمبريالية العالمية، لذلك فإن غزة وأبطالها الذين يعتبرون الرمز الأكبر ثراء للفكر والأكثر أهمية في هذا السياق فهم جديرون بأن نضعهم علامة للاحتذاء بهم وتوجيه الأجيال إلى الارتباط بهم لما له من أهمية في تغيير معادلات القوى والارتباط بالأوطان التي لا تحدها حدود الجغرافيا.

شيئان مهمان يمكننا الاستفادة منهما والعودة إلى جادة صواب العيش وتعريف الأوطان، وهما إعادة ترتيب الرموز العربية-الإسلامية والعودة بها مجددا إلى المفصل الفكري المفضي إلى كتابة التاريخ

لم تكن صورة العرب والمسلمين خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر هي ذاتها قبل تلك المسرحية، إلا أنه كان سببا كافيا ورئيسا نحو تغيير المناهج التعليمية "العربية" عبر تبديل الانتماءات وإحداث الفوضى الفكرية التي تغذي معتنقيها بالتلبد والرضوخ تحت مسميات السلام واستيعاب الآخر، لذلك وبعد تلك التجليات التي لم تكن وليدة اللحظة وإنما جاءت مع آلة الحرب التي اعتقدت الدول الداعمة للكيان الصهيوني أن تعيد بها رسم خارطة الشرق الأوسط والانتهاء من صفقة القرن، أن تكون المسار الجديد الذي فصل على منهج قوة السلاح، بل كانت تلك الأحداث شرارة جديدة أرادت بها غزة أن تعيد تعريف العالم بمعنى الثورة، وأين يوجد الظلم؟ وما هو مصير السجن المفتوح؟ نعم بعد تلك التجليات آن الأوان أن يقف المسلم لرسم خارطة تليق به وبأجياله.

شيئان مهمان يمكننا الاستفادة منهما والعودة إلى جادة صواب العيش وتعريف الأوطان، وهما إعادة ترتيب الرموز العربية-الإسلامية والعودة بها مجددا إلى المفصل الفكري المفضي إلى كتابة التاريخ، لأنه حتى ولو أخفيت تلك الرموز (فلسطين داري، غزة، أبو عبيدة، الكوفية، اللثام، المواقع الدينية، الحدود الجغرافية، الأقصى، غسان كنفاني، محمود درويش، شيرين أبو عاقلة، وائل الدحدوح…) إلا أنها تسطع بين كل لحظة إلى الواقع وتدفع بالأحرار إلى البحث والتقصي وعدم الرضوخ لشكليات الرمز الخالد الذي لا ينتهي والذي ما أن يوارى الثرى ينبري آخر ليسجل نفسه في روزنامة الوطن المنهوب، لذا فتلك الرموز هي الخالدة في حياتها ومماتها لأنها لم تبحث عن مصلحة ذاتية بل كانت تقف في وجه الظلم بما أوتيت من وسيلة وقوة.

الشيء الآخر الذي يعد القاعدة المؤسسة لتك الرموز، هو بناء المناهج التعليمية لتغيير نمطية الصورة عند الأجيال والدفع بهم إلى التحرر من ربقة الاستعمار الداخلي والخارجي الغربي في كافة صنوفه، وتكوين حائط صد فكري لهم عبر وضعهم في نطاق قيمهم المجتمعية الإسلامية والعودة بهم إلى قيادة العالم على نهج أسلافهم، مع التأكيد على أهمية بناء التفكير النقدي وليس الانقياد إلى مترفات الحياة، والأهم من ذلك تعريفهم بأعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر ويدفعون بهم إلى الرضوخ والانبطاح.

التحرر من عبودية السياسة الغربية لا يكفيها سلاح المقاومة على أرض الواقع أو ميدان الحرب، وإنما إيجاد آلة تعليمية قوية تستند إلى تعاليم إسلامية سمحة ترافقها منظومة إعلامية وأقلام ترفع مستوى "الأدرنالين" النقدي عند المتلقي

أما البعد الآخر لبناء مناهج تعليمية تكون قادرة على  أن تكسر قيد الصورة النمطية الأخرى التي تشكلت لدى الغرب، واستطاعت غزة أن تغيرها، وهي صورة العرب والمسلمين في المجتمعات الغربية، وهنا يمكن أخذ المسار الذي اتبعته الأقليات في نيل حقوقها عبر "ثوار" جاهدوا ضد الظلم وحرروا العقول قبل الحقول، لذلك فإن الصور القاتمة التي اشتغلت عليها المناهج الغربية والمراكز البحثية ساهمت في توسيع الهوة بين أصل الحقوق وحقيقة الشعوب المسلمة التي ضاقت مرارة تلك النظرة ومرارة التهجير من قبل أنظمة بائدة انتهجت التسلط الداخلي، فمن الأهمية بمكان أن يكون الاستثمار الحقيقي في توجيه أحداث غزة إلى ثورة فكرية تعليمية تنويرية مع الاستبسال في نيل حق العودة والأرض.

فالتحرر من عبودية السياسة الغربية لا يكفيها سلاح المقاومة على أرض الواقع أو ميدان الحرب، وإنما إيجاد آلة تعليمية قوية تستند إلى تعاليم إسلامية سمحة ترافقها منظومة إعلامية وأقلام ترفع مستوى "الأدرنالين" النقدي عند المتلقي، فذلك هو الطوفان الذي سيبني أجيالا تكون قادرة على تغيير رمزية الثورة من مجرد فكرة إلى واقع يعيد الأمجاد بلغة العصر التي لا تقبل المساومة وتكون لهم بصمة ثابتة، ويستطيعوا إخفاء الصهاينة الذي يحملون "حقيبة السمسونايت".

يقول عبد الوهاب المسيري: "سيأتي صهاينة ليسوا يهودا، بل هم مسلمون، يلعبون دور الصهاينة، يمثلون إسرائيل خير تمثيل، الصهيوني الجديد هو الصهيوني الوظيفي، الذي يصلي العشاء معنا، وهذه مشكلة كبرى، لأنه سيقوم بالوظيفة التي كان يقوم بها الجنرال الإسرائيلي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.