شعار قسم مدونات

سليم الجندي.. فقيه العربية وأحد حماتها

محمد سليم الجندي (الجزيرة)

روعت محافل العلم والأدب حين أعلنت الإذاعة السورية نبأ وفاة العلامة الجليل محمد سليم الجندي يوم الاثنين 24 أكتوبر/تشرين الأول 1955 فوجمت كل نفس عرفت الفقيد لحظات لهزة الفاجعة الأليمة، وسالت دموع ولهجت ألسن بالضراعة إلى الله سائلة الرحمة للفقيد والتعويض على الأمة.

في الحلقة الثانية من سلسلة "شخصيات أثرت في المجتمع السوري وتركيبته العلمية والأدبية خلال القرن العشرين" نتحدث عن محمد سليم الجندي، وكنا قد بدأنا هذه السلسلة بالأستاذ مُسلَّم عناية أستاذ الرياضيات.

أما سليم الجندي فقد كان واحدا من علماء العربية في هذا العصر (القرن العشرين)، كأنه من فقهاء العربية الأولين، ولكنه ضل طريقه في بيداء الزمان فجاء في القرن الرابع عشر الهجري لا في القرن الرابع!

لخص الجندي منهاجه كله، المنهاج الذي يشتمل الدين والعلم والخلق، لقن طلابه مع العربية الدين وقصد التقرب إلى الله بخدمة لغة القرآن.

سليم الجندي.. والدفاع عن العربية

قال الجندي في العدد الأول من مجلة الرابطة الأدبية، في مقدمة باب تهذيب الألفاظ: "مُنيَت اللغة العربية بضروب من النكبات، لو أنزلت على جبل شامخ لتصدع، ولو أصاب غيرها من اللغات معشارُ ما أصابها منها لعفت رسومها واندثرت معالمها، ولكن الفضل في سلامة هذه اللغة الكريمة ونجاتها من براثن الفناء والموت يرجع إلى القرآن الكريم".

ثم قال: "وغايتنا إرشاد الألسن والأقلام إلى مواقع الفصاحة والصواب، وصرفها عن مظانّ الغلط ووجوه الركاكة. ولسنا نزعم في كل ما نكتب السلامة من الزلل والعثار لأن العصمة لله وحده".

لقد لخص الجندي منهاجه كله، المنهاج الذي يشتمل الدين والعلم والخلق، وقد لقن طلابه مع العربية الدين وقصد التقرب إلى الله بخدمة لغة القرآن. وأخذَ طلابه بالبعد عن الجرائد والمجلات وهذا الأدب الجديد (هذا قبل مئة سنة، فما حال الأدب اليوم!)، ولم يكن يملي على طلابه في الإعراب والاستظهار إلا الشعر الذي يحتج بعربيته من الجاهلي والإسلامي، ويخرِّج لهم الألفاظ تخريج المُحدِّثين الأحاديث، فيميز لهم الصحيح من الدخيل والفصيح من الشاذ.

كان الجندي جندياً يحمي حمى العربية أن يدخله لص من باب البرامج أو الكتب أو الامتحانات العامة، أو من باب اختيار الجهلة بالتدريس، ما غفل يوماً ولا فارق مكانه

جنديٌّ يحمي العربية

يقول الأديب السوري علي الطنطاوي (وهو أحد تلامذته في مكتب عنبر الدمشقي): لم يكن يوضع برنامج للعربية في المدارس ويُبدل أو يؤلَّف كتاب أو يعدل إلا دعوا الجندي، فإذا جاء وجد أعداء العربية وخدمة الاستعمار متربصين له، يريدون أن يُجَهِّلوا أبناء العربية بالعربية حتى يبعدوهم عن القرآن فيسلبوهم أقوى سلاح يحاربون به الاستعمار، يسلكون لذلك أدق المسالك ويتخذون لذلك أخفى المكر، وكان عليه أن يحاربهم وحده، يدفع مكرهم بأخفى منه ويسلك لذلك أدق من مسالكهم، فينال ذلك من أعصابه ومن صحته.

لقد كان الجندي جندياً يحمي حمى العربية أن يدخله لص من باب البرامج أو الكتب أو الامتحانات العامة، أو من باب اختيار الجهلة بالتدريس، ما غفل يوما ولا فارق مكانه، فلما سقط شهيدا صريع المعركة استبيح الحمى ورتع اللصوص، ودخلوا من كل باب من هذه الأبواب. لقد بدلت البرامج وغيرت الكتب وعيث في الأرض الفساد، وصار بعض مدرسي العربية اليوم (قبل سبعين سنة) أضعف من بعض طلاب البكالوريا تلك الأيام، وفق ما أشار إليه علي الطنطاوي في كتاباته.

قالوا عنه

أحمد السمان (رئيس الجامعة السورية): لم يكن الجندي أستاذا في الجامعة السورية وحسب، ولكنه كان معلما لأساتذتها فأثره فيها وفي تعليم العربية واضح غير منكور. كان واحدا من الرجال الذين علموا جيلا كاملا من الشباب وأشربوه حب العربية وإتقانها في زمن كانت فيه يتيمة منسية، فصنعوا ما تعجز عنه دولة وما تنوء به العصبة أولو القوة ووضعوا أسس الثقافة اللغوية وعماد النهضة العربية.

محمد بن عبد القادر المبارك: لقد كانت طريقته في العلم الإحاطة بفروع الثقافة كلها مما يتصل بالعلم الذي ينصرف إليه، بروح علمية محبة للتحقيق وبذاكرة واعية كثيرة الاستيعاب، وقد كان انصرافه هذا للعلم لا للشهادة ولا للوظيفة والكسب، فلقد نشأ الجندي غنيا ورث عن أبيه ثروة صالحة، فكانت الوظيفة محتاجة إليه فجذبته إليها ليخدم المجتمع وليؤدي أمانة العلم. كان الجندي واحدا من أساتذة الجيل عَلَما شامخا في الفضل والخلق والعلم، حفظ جزءا كبيرا من تراث لغتنا العزيزة وكان له في نهضتنا الحديثة أثره البارز وعلى أساتذة الجيل الحاضر وأدبائه فضل مذكور.

طوى الأحبةَ صدعُ البين فانتثروا

وخلفوا النفسَ موصولاً بها العبرُ

إغناطيوس أفرام الأول برصوم: عرفنا الأستاذ سليم الجندي فرأينا منه رجلا رضية أخلاقه، رصينة مواقفه، مخفوضا جناحه، وفيا لأصدقائه، حسنة شمائله التي تزدان بها البيوتات الكريمة. وقد مضى محمودا سعيه في تخريج رجال أدب وإنجابه بنينَ أحسن تثقيفهم، طيبا ذكره بما دبجته يراعته.

وقد رثاه الشاعر أنور العطار بقصيدة طويلة مطلعها:

طوى الأحبةَ صدعُ البين فانتثروا .. وخلفوا النفسَ موصولاً بها العبرُ

فالقلب من بعدهم مستوحشٌ جزِعٌ .. كالغصن عُرِّي منه الماء والزهر

كان من تلاميذه: الدكتور جميل سلطان والدكتور زكي المحاسني ووجيه السمان ومحمد الجيرودي، والشاعر أنور العطار والنحوي سعيد الأفغاني والقاضي علي الطنطاوي.

سليم الجندي

ولد محمد سليم الجندي في معرة النعمان سنة 1880 وانتقل إلى دمشق مع والده سنة 1319 هجري وتوفي سنة 1955. عين أستاذا في مكتب عنبر من سنة 1924 حتى سنة 1940 كان من تلاميذه: الدكتور جميل سلطان والدكتور زكي المحاسني وجمال الفرا ووجيه السمان ومحمد الجيرودي، والأستاذ محمد المبارك والشاعر أنور العطار والنحوي سعيد الأفغاني والقاضي علي الطنطاوي.

من مؤلفاته: إصلاح الفاسد من لغة الجرائد- تاريخ معرة النعمان- الجامع في أخبار أبي العلاء المعري- رسالة في الطرق- رسالة في الكرْم- عدة الأديب- عمدة الأديب، وهي سلسلة كتب، منها: عبد الله بن المقفع- علي بن أبي طالب- امرؤ القيس.

وله كتاب محقق: رسالة الملائكة لأبي العلاء المعري، وشارك في وضع كتب تعليمية للناشئة، منها: كتاب "كتاب المستظهر"، وصحح وضبط كتاب "معاني الشعر" بالاشتراك مع مجموعة من الأساتذة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.