شعار قسم مدونات

شخصيات أثرت في المجتمع السوري خلال القرن الـ20.. "مُسلَّم عناية"

سوريا_دمشق_شام مصطفى_لقطة لمئذنة بجانب بيت (مكتب عنبر) (حصري)
هنا كان يدرس مُسلّم عناية في القرن الـ20 بقصر مكتب عنبر (الجزيرة)

كانت بداية القرن الـ20 لحظة تحول حاسمة في تاريخ سوريا، وبلاد الشام عموما، فدالت دول وبادت أمم وظهرت دول وانهارت دول وتغير الحكم، فكان مطلع ذلك القرن بسيطرة الاتحاديين على حكم الدولة العثمانية، ثم انهارت الدولة العثمانية كلها، وسيطر الأمير فيصل على حكم الشام، فيما عرف بالعهد العربي، ثم كان الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان.

وبدأ عهد جديد في الشام برزت خلاله أسماء لامعة في مضمار التعليم والتدريس والسياسة والشأن العام، كان لأكثرهم تأثير واضح في تشكيل البنية المجتمعية السورية الجديدة.

وفي هذه السلسة سنسلط الضوء على شخصيات ووجوه أثرت في المجتمع السوري وتركيبته العلمية والأدبية خلال القرن الـ20، وسنبدأ هذه السلسلة بأستاذ الرياضيات السوري "مُسلَّم عناية".

لمحة عن تلك المرحلة

بدأت جمعية الاتحاد والترقي بإعلان النزعة القومية، بل ونزعت نحو الطورانية الهادفة إلى توحيد ذوي الأصل التركي، ومحاولة فرض التتريك على رعايا الدولة من قوميات أخرى.

ووصل الأمر إلى تدريس العربية وقواعدها باللغة التركية في مدارس الشام، وبعد زوال العهد التركي عن الشام ودخول الأمير فيصل دمشق برزت في نفوس الشاميين رغبة بالعودة إلى التراث العربي والإقبال عليه ودراسة النحو والأدب العربي والتاريخ العربي.

لقد كان في دمشق -حينها- ثانوية وحيدة، هي مكتب عنبر، ولكن هذه الثانوية الوحيدة أخرجت أكثر رجالات الأمة، ولم تكن تمضي سنة لا تقدم فيها هذه الثانوية كاتبا أو شاعرا أو نابغة في الطبيعة أو في الرياضيات أو موسيقيا أو مصورا أو رياضيا قوي الجسم، وإنّ أكثر الذين تصدروا المشهد الأدبي أو العلمي أو السياسي في سوريا خلال القرن الـ20 جازوا مكتب عنبر ودرسوا فيه وتتلمذوا على يدي أساتذته، وكان أحد هؤلاء المدرسين والأساتذة "مُسلَّم عِناية".

وفي الحقيقة لم يكن أساتذة مكتب عنبر أساتذة عاديين يختصون في موادهم التي يدرسونها؛ بل كانوا مكتبة أو مكتبات متنقلة حازوا المعارف وجمعوا العلم من أطرافه. فأفاد منهم طلابهم حق الفائدة ونهلوا عنهم خير منهل وصاروا هم أئمة العلم وسادة البلد.

كان بعض الطلاب يحاول في بعض الدروس إحراج "مسلم عناية" أو إزعاجه، لما يُعلم من عصبيته، فكان يغضب، ولكنه كان يرضى سريعا، وينقلب رجلا حليما، رؤوفا، شفيقا بأولاده.

"مُسلّم عِناية" مدرّسا في المدرسة (في مكتب عنبر)

كان عصبيا، خفيف الظل، دائب الحركة، قويا في الرياضيات، ولا سيما في الحساب الذهني. موسيقيا بارعا، يتقن العزف على كثير من الآلات. وكثيرا ما حادث الطلاب ببعض اللغات التي يتقنها.

ويقول علي الطنطاوي، تلميذه، عنه "ولكنه كان -على هذه المزايا كلها- بعيدا عن التوفيق في التدريس، عاجزا عن ضبط التلاميذ، له في الفوضى نوادر عجيبة.

لقد كان أكبر من أن يكون مدرسا في مدرسة ثانوية، فعجز عن الهبوط إلى "مستوى" عقول التلاميذ ليفهمهم وعجزوا عن الصعود إليه ليفهموا منه، فبقي بينه وبينهم فراغ ملؤوه بالشغب والضجيج وإفساد الدرس. رحمه الله، فلقد عشت حتى بلغت هذه السن، وتنقلت في البلاد ولقيت العلماء والأدباء والأذكياء، فما صادفت أشد منه ذكاء".

"دائرة معارف" وجمّ التواضع

وعلى أنه كان دائرة معارف، رحمه الله، كان كذلك جم التواضع، قليل الادعاء، ندر أن افتخر بعلمه، أو زهي بثقافته.

"أكثرَ الطلابُ من مناداته "أستاذ"، يستوضحون ويسألون، فيتوقف ويقول "كفوا عن هذا النداء". قالوا: ولماذا؟ قال "لأنكم لو عرفتم من أين اشتقت هذه اللفظة لما أعجبتكم، إنها مشتقة من الفارسية، ومعناها بالفارسية (معقل المجانين)!"، فضحكنا جميعا، واستغرقنا في الضحك" وفق قول علي الطنطاوي.

كان ضابطا ممتازا في الجيش التركي، وندر أن حاز أيام الترك أحد من أولاد العرب لقب (ضابط ممتاز).

وكان بعض الطلاب يحاولون في بعض الدروس إحراجه أو إزعاجه، لما يُعلم من عصبيته، فكان يغضب، ولكنه كان يرضى سريعا، وينقلب رجلا حليما، رؤوفا، شفيقا بأولاده.

كان واحدا من العباقرة

كان الأستاذ "مُسلّم بك عِناية" أحد العباقرة، كما يصفه تلميذه علي الطنطاوي في ذكرياته. كان برتبة "كولونيل" في الجيش العثماني، فلما انحلّ الجيش جاء كأكثر زملائه العسكريين مدرّسا للطلاب في مكتب "عنبر"، فلم يستطع أن ينزل إلى الطلاب وما استطاع أن يرفعهم إليه، فكانت بينه وبينهم فجوة ملؤوها شغبا وضحكا وهزرا حتى صار درسه مثلا مضروبا للفوضى.

كان "أستاذا" في الرياضيات، يضرب بذهنه رقمين في رقمين ويعطيك الجواب خلال ثوانٍ، والمسائل التي يعجز الأساتذة عن حلها يحلها على أهون سبيل.

يقول علي الطنطاوي "كان يدعي أن الرياضيات فيها جواب كل مسألة. سمعنا مرة نتساءل عن قوله تعالى "ليس كمثله شيء" لماذا جاء بأداتين من أدوات التشبيه "الكاف ومثل؟"، فقال لنا "جوابها في علم الهندسة، في نظير النظير: مثلث (ب ج د) نظيره (د ج ب)، هذا ليس مثله، ولكن مثيله هو نظير النظير (ب ج د)".

كيميائي وطبوغرافي وموسيقي ويتقن اللغات

كان الأستاذ مُسلم عناية عالما بالموسيقى وأستاذا فيها وعازفا ممتازا. وكان أستاذا في العلوم الطبيعية وحجة في الكيمياء خاصة، يرجع إليه مدرسوها في معضلات مسائلها، لا يكتمون ذلك عن طلابهم ولا يتحرجون من ذكره أمامهم. وكان أساتذة الكيمياء في دمشق إذا لم يقدروا على إجراء تجربة رجعوا إليه فأجراها هو أمامهم وأمام الطلاب.

وكان عبقريا من أفذاذ الرجال، ومن كبار الضباط أركان الحرب، ومِن أعلمهم بالفنون العسكرية.

وأتقن "عناية" عدة لغات؛ الفرنسية (وكان يدرسها في مدرسة الشرطة) والإنكليزية والتركية (كان أديبا فيها) والفارسية، وكان يحسن الألمانية.

وكان أستاذا في "الطبوغرافيا". ويقول علي الطنطاوي "كان يدعي أن الرياضيات فيها جواب كل مسألة. سمعنا مرة نتساءل عن قوله تعالى "ليس كمثله شيء" لماذا جاء بأداتين من أدوات التشبيه "الكاف ومثل؟"، فقال لنا "جوابها في علم الهندسة، في نظير النظير: مثلث (ب ج د) نظيره (د ج ب)، هذا ليس مثله، ولكن مثيله هو نظير النظير (ب ج د)".

من هو مُسلّم عِناية؟

تحدث عنه وذكره الأديب السوري علي الطنطاوي في ذكرياته، وكذلك فعل الأستاذ ظافر القاسمي في كتابه مكتب عنبر، إلا أنني لم أعثر على كثير معلومات تخص مولده ومماته ونشأته رغم كثرة البحث عن اسمه في الكتب والسؤال عنه لدى الأعلام الدمشقيين، ولم أجد اسمه في "الأعلام" للزركلي، وسألت عنه بعض الدمشقيين فمنهم من لم يسمع باسمه قط، ومنهم من عرف اسمه ولم يعرف عنه شيئا آخر، وإن في هذا ما يثير الأسى والألم في النفس.

مُسلّم عِناية؛ واحد من السوريين الذين أثروا في التركيبة الاجتماعية والعلمية والأدبية للمجتمع السوري فتخرج على يديه كثير ممن قادوا الحراك الأدبي والاجتماعي والعلمي في سوريا خلال القرن الـ20، فكان ممن تتلمذ على يديه خالد العظم وخالد بكداش وعلي الطنطاوي وأنور العطار وجميل المحاسني وخليل مردم بك وظافر القاسمي وغيرهم، وهؤلاء ممن تصدروا المشهد السوري، الأدبي والاجتماعي والسياسي، خلال القرن الـ20.

مصادر ومراجع

  • من حديث النفس، علي الطنطاوي، راجعه وصححه وعلق عليه مجاهد مأمون ديرانية، ط 8، دار المنارة، المملكة العربية السعودية 2011.
  • ذكريات علي الطنطاوي، ج 1، علي الطنطاوي، راجعه وصححه وعلق عليه مجاهد مأمون ديرانية، ط 5، دار المنارة، المملكة العربية السعودية 2006.
  • مكتب عنبر صور وذكريات من حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، ظافر القاسمي، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، بدون تاريخ.
  • الأعلام، خير الدين الزركلي، ط15، دار العلم للملايين، لبنان- بيروت 2002.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.