شعار قسم مدونات

بين الأماني الدنيوية والأخروية.. هل ننسى الموت؟

تاريخ “مدينة الموتى” في القاهرة يواجه أبدية النسيان
كيف لموت أحدهم أن يحدث زلزالا في مجساتك؟ أن يموت فجأة بشكل لا ينسى (رويترز)

في زمن ما حاولت كثيرا أن أحبس التعبير عما اعتمل في نفسي من ألم إثر حادثة ما، ولكن ها أنا ذا أبوح به مقالا عل في جرابه رسالة لي ولكم.

في غمرة غرقنا في تتبع قطار الموت الذي كان يقل كبار السن إثر جائحة كورونا، وكأن الموت لن يأتي إلا عن طريقه، ولكن، لا محالة سيأتينا خلسة دون أن نحس أو حتى نسمع دبيبه، ولو نفضنا عن رأسنا التفكير به.

كنت قد استيقظت لتوي ولا زالت تغطي عيناي غشاوة تقاوم ثقل النوم، وما إن سمعت الخبر تجمد الدم في عروقي، وشخصت عيناي صوب سقف الغرفة، أحاول الاستيعاب، أحاول التكذيب، أحاول كل شيء إلا أن أصدق، ولكنه الموت وأي شيء يلوذ منه، وأي منا يود أن يعيه، وأي منا يود أن يصدق أصلا، طفت كل الذكريات بلحظة على سطح دماغي، واخترقت لا وعيي الذي غرقت فيه، ثم هبت رياح الصحو فجأة؛ يا الله!!.. كيف يحدث هذا؟! كيف ينتهي الإنسان بلحظة؟! هل كان الموت قريبا منها لهذه الدرجة يوم أمس!؟

إنسانة تقاطعت أيام من عمرنا معا في مرحلة ما، وشاطرتني جزءا من طفولتي، كان آخر عهدها زيارة لبت فيها دعوة أهلها لوليمة إفطار رمضاني، تبث ابتساماتها وضحكاتها بينهم وكأنها تودع أصقاع المكان هناك، وتداعب طفلها الرضيع وتلاعبه ثم تضمه إلى صدرها والفرحة تغمر عينيها، وما إن انتهت هذه اللحظات عادت إلى بيتها وأخذت تعد طبقا من الحلوى ثم توضأت لتصلي صلاة التراويح في تلك الليلة، لم تكن تعلم أن ملك الموت ينتظر عودتها إلى البيت ليبدأ العد التنازلي لخروج الروح إلى بارئها.

كيف للمرء أن ينسى!؟ الوقت كفيل بكل شيء، وحري بنا أن نشغله أكثر بالعطاء، بالإحسان.

إثر ما حدث ستراودنا تساؤلات كثيرة؛ ونبدأ حديث النفس بـ "ليت، ربما، لو…" ولكنها ما لبثت أن تهاوت إلى حيث اللادنيا، عاجزة عن تحريك أوصالها، فصارت أجلا مسمى -ربما- كانت تريد لأطفالها أن يكبروا بعد، ويراودها حلم بإنجاب طفلة أخرى تكون أختا لهم يوما ما، وتنتظر بفارق الصبر أن يمشي طفلها الرضيع لتكون أسبق من يربت على أولى خطواته الوئيدة، وتريد أن تبقى في مهنتها إلى أن تصل سن التقاعد، وربما كانت ستصبح جدة يعلو الشيب رأسها، ويحدودب ظهرها والأحفاد يقفزون حولها هنا وهناك من ركن إلى ركن في بيتها الجميل وتحدثهم عن أحداث حياتها المحزنة والمضحكة في آن معا، وربما أيضا كانت تخطط لرحلة ربيعية وزيارات كثيرة، وواعدت إحدى صديقاتها عبر واتساب لتحتسي برفقتها فنجانا من القهوة بعد أن تنقشع غيمة كورونا.

وربما وربما وهيهات هيهات، فكل هذا صار محض خيال.. والغد صار محالا، وكل قطعة في بيتها تحكي قصة مدهشة.. وأمكنتها غدت لنا فيافي موحشة، وصوتها صامت لبس الحداد.. وفاحت رائحة حزن وافتقاد.

أما اسمها فكان فاصلا.. وموتها لظهر النفس قاصما، لا أدري، ألأنها لا زالت صغيرة؟! أو أن موتها كان مباغتا يبعث على النفس حيرة؟! أو أن تجرع رشفة الموت مريرة؟! أو أن الفقد مؤلم يقض مضجع النفس القريرة؟! أو أن أطفالها لا زالوا صغارا وأمهم أميرة؟ وتبقى التساؤلات كثيرة لو أنها عاشت لأيام أخرى يسيرة؟! أو أن هناك فرصة للقاء معها ولو لمرة أخيرة؟ ربما كل هذه مجتمعة، وإنني أكتب ما أكتب والحزن يمزق نياط قلبي لنظم الكلمات فيها.

كيف للمرء أن ينسى!؟ الوقت كفيل بكل شيء، وحري بنا أن نشغله أكثر بالعطاء، بالإحسان. كيف لموت أحدهم أن يحدث زلزالا في مجساتك؟ أن يموت فجأة بشكل لا ينسى.. كيف لموت أحدهم أن يترك أثرا في نفسك؟ أن يتغير منحى تفكيرك جذريا إزاء كل شيء. كيف نجبر اللقاء بعد أن يفارق الدنيا؟ أن يسخرنا الله للدعاء له أو الصدقة عنه.

إن النية تغير مجرى كل شيء، فالأماني الدنيوية متعتها حاصلة، نروح عن أنفسنا وندخل السرور إليها بما نحب، ولكن أجرها يلزمه عقد قلبي متجدد مع الله، أيضيرنا شيء؟!

  • صفعني مقطع الموت هذا وأودى بي إلى نقطتين:

كلنا نتوجس خيفة من المستقبل، وما إن يأتي نبدأ التفتيش عن مستقبل آخر، هكذا نحن في سباق مع الزمن، نفكر بقائمة من الأماني الدنيوية، ونخطط لها، وإن هذا لشيء جميل، ولا بأس بالتمتع بما أحله الله من طيبات الحياة على أكمل وجه ما دامت لا تغضب الله في أي وجه، ولكن يبدو أنه أصابنا من الغلو فيها ما جعل عمار الدنيا غاية وليست وسيلة لعمار الآخرة، فنسينا الأماني الأخروية ورغبنا عنها، لدرجة أننا لا نريد ذكر الموت كأننا سنعيش أبدا، وبات دعاؤنا لله محصورا في أمانينا من هذه الدنيا، قال تعالى: " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق " فقد كانت أكثر دعوة يدعو بها النبي ﷺ تجمع بينهما، قال تعالى: " ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب".

إن النية تغير مجرى كل شيء، فالأماني الدنيوية متعتها حاصلة، نروح عن أنفسنا وندخل السرور إليها بما نحب، ولكن أجرها يلزمه عقد قلبي متجدد مع الله، أيضيرنا شيء؟! لا والله.. بل ستأتينا الدنيا راغمة ويعم الرضا أركان حياتنا المتصدعة، قال تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" حتى النوم لك أن تنوي التقوي به لتتمكن من التعبد والعمل.

ففي القرآن كما ذكرت كلمة الدنيا ذكرت كلمة الآخرة، فالدين لا يتعارض مع الدنيا، وكذلك ذكرت كلا من كلمتي الحياة والموت، ويندر أن تخلو سورة من ذكر الموت فهو لا يقل أهمية عن الحياة. لكن سبحان الله، نحن لا نتمناه بالفطرة رغم أنه بداية الطريق للقاء الله عز وجل، فكيف ينتهي الإنسان فجأة ولا شيء في أحاسيسنا تدل على أن هذه النهاية، فالتفكير بالموت مرعب، وتصديقه يخلع القلوب!

لا نكترث كثيرا للموت إذا لم نره، لذلك لا نتقبل ولن نستطيع كثيرا استيعاب فكرة موت "الأنا"، لأننا لن نستطيع أبدا أن نرى أنفسنا في وضعية الموت.

يقول النابلسي: "الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح". والنبي ﷺ كان يذكر الموت كثيرا قبل منامه وعند صحوه، وكان يقول: "أكثروا ذكر هادم اللذات" -لأنه يقطع لذاتنا في الدنيا، ويدني من لذات الآخرة- لذا فإن أفضل طريقة للخوف من الموت هي المواجهة، ووضعه في حساباتنا اليومية لنفلح في هذه الدنيا، فهو النهاية الطبيعية لكل شيء وهذا من رحمة الله تعالى بنا.

والآن لو أبصرنا في أنفسنا قليلا لأدركنا أن عملية الموت تحدث في داخلنا كل يوم ونحن على قيد الحياة؛ فحين تموت الخلايا تدفن جثتها بطريقة ما أو تشيع جنازتها إلى الخارج منا، لكن لا نحن نراه ولا الخلايا نفسها تراه، ورغم هذا فإن ساعات أفئدتنا تدق تك تك على نفس الوتيرة، وأنفاسنا تتردد بكل هدوء، طرفنا يرف بانتظام ويغط بالنوم الذي هو أيضا نصف الطريق إلى الموت.

وهذا يعني أننا لا نكترث كثيرا للموت إذا لم نره، لذلك لا نتقبل ولن نستطيع كثيرا استيعاب فكرة موت "الأنا"، لأننا لن نستطيع أبدا أن نرى أنفسنا في وضعية الموت.

ربما مرت السنين بسرعة ضوئية عجيبة وكأن طفولتنا يوم أمس، ولكن ما بقي من عمرنا سيمضي أيضا بنفس السرعة، ثم نواجه صحيفتنا التي سجلت فيها أعمالنا خيرها وشرها، صغيرها وكبيرها، موقفا موقفا، والتي ربما قد نسيناها! ولكن كل ما مررنا به ومر بنا من أحداث سنراه بمنظار دقيق لحظة موتنا. فهناك دراسات تؤكد أن منطقة الذكريات آخر ما يموت بالدماغ، فلا تجعل حياتك موتا آخر، موت مقنع بالحياة، واترك أثرا كأنه لم يبق من حياتك إلا هذه الساعة، وإن زاغ قلبك يوما، حدث نفسك بنبرة الموت فلا أزجر من تلك النبرة على بني الإنسان!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.