شعار قسم مدونات

لمحات صوفية في القراءة الحضارية

blogs - الرقص الصوفي صوفية
يقول أهل السير إلى الله إن التخلي والتحلي ينتج بعد المجاهدة أحوالا للسائر (رويترز)

يزداد الأمر وضوحا كلما قاربته من زوايا عدة، ولذا أود بعد الحديث في مقالات سابقة عن الفعل الحضاري والياته وأنواعه وتجلياته أن أضيف مقاربة صوفية المنحى تستعير من تعبيرات القوم ما يلقي الضوء على مزيد من طبيعة هذا الفعل وكذلك بعض محاذيره.

تربية حضارية على النسق الروحي

على النسق التزكوي، أزعم أن إعداد الفرد للفعل الحضاري يحتاج إلى منهج التزكية نفسه المسطر في تراثنا الراقي. فأول السير إلى الله يكون بالتخلية، وهي هنا التخلي عن الاستلاب والأسر الحضاري للحداثة بإدراك ماهيتها وأرضيتها الفلسفية ونتائجها إدراكا يستطيع به أن يفرق به بين الغث والسمين من منتجاتها ويخرج به فكرا وعقلا من الدوران في فلكها، وهو أمر صعب جدا لطول أمد هذه الحضارة.

يتبع ذلك ما أسموه بالتحلية، وهي التحلي بقيم الهوية الناظمة لنسق الأمة الثقافي، ولا يكون ذلك إلا بغوص في التراث الفكري والديني والفني، ليقف على ركائز هذا البنيان وإبداعاته وتميزه، فيسعى لاكتساب وفهم المنظومة الأخلاقية الحاكمة والمسيطرة على هذا التراث.

يقول أهل السير إلى الله إن التخلي والتحلي ينتج بعد المجاهدة أحوالا للسائر، وكذا هنا قياسا (مع الفارق طبعا)، فإن النجاح في التخلي عن أسر النموذج المعرفي الحديث والعلو فوقه عن طريق التحلي بقيم وهوية الأمة ينتج بعد المجاهدة الفكرية أحوالا حضارية ترتقي بالأمة من خلال منتجات إنسانية معرفية وفنية وقيمية تسطع في الزمان والمكان، كما يسطع قلب العارف في هذه الأحوال وتمضي في هذا الإنتاج حتى يستقر مقامها في ريادة الإنسانية كما يستقر العارف بعد طول أحوال فيما أسموه أولياء الله المقامات.

إن التداول الحضاري يشمل عملية توالد حضاري من رحم أخرى ولذلك فإن أثر القائم على ما سيقوم دائما ما يكون جليا ولذلك أطنبنا في الحديث عن أهمية معرفة النسق الثقافي والنموذج المعرفي للحضارة القائمة لتبيان مساحات البناء والترك والتطوير في مسيرة الإبداع الحضاري المطلوبة

احذروا الوهم الحضاري

من جميل دعاء أهل السلوك: "اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم إلى أنوار الفهم"، دعاء يشمل كل مناحي الحياة الدنيا والآخرة، ولعلي أقتبس منه هنا وأقول إن علينا الحذر من الوهم الحضاري.

أعني بالوهم أمورا عدة، منها ما أشرنا إليه سابقا من توهم الإنتاج الحضاري الجديد، بينما هو في حقيقته تركيم لمنتجات الحضارة القائمة ولكن بنكهة مختلفة كما فصلنا من قبل، وأزيد فأقول أيضا إن من الوهم تصور أن الانسلاخ التام من النموذج الحضاري القائم ونسقه المعرفي المشكل لكثير من العقول أمر يسير ممكن أو حتى مفيد.

إن التداول الحضاري يشمل عملية توالد حضاري من رحم أخرى، ولذلك فإن أثر القائم على ما سيقوم دائما ما يكون جليا، ولذلك أطنبنا في الحديث عن أهمية معرفة النسق الثقافي والنموذج المعرفي للحضارة القائمة لتبيان مساحات البناء والترك والتطوير في مسيرة الإبداع الحضاري المطلوبة.

يلزم من ذلك أيضا البعد عن وهم أنه أمر يسير وواضح كما تلمسه من كتابات وأفكار العديد من أهل العاطفة الجياشة وأصحاب الحماسة الإسلامية من قومنا، ويلزم أيضا منه وهم الاعتقاد أن رسم نموذج الحضارة الجديد بله تفصيله العملي هو جهد يقوم به فرد نابغة أو قلة وحدهم أو جماعة مهما كبرت.

الحقيقة أن ذلك حصيلة تشابك فكري وتكامل عملي ودورات مراجعة وتصحيح عبر أجيال من أمتنا في حركة تصاعدية تقدمية ترسم هذا النموذج وتطبقه ثم تعود فتصحح ما رسمت وتبني على ما طبقت، وهي ترسم لوحة كبيرة لتتعانق هذه الحركة في كل المجالات، مخرجة هذه اللوحة الحضارية التي تشهد على الإنسانية تعبدا وتشهد لها نفعا.

إن هذا الجهاد الحضاري ينصت إلى ما حذر منه ابن عطاء الله السكندري حين قال "ما قادك مثل الوهم"، وفي الوقت ذاته يوقن أن ما تأخر من بدأ، وأن من سار على الدرب وصل وشعاره في هذا شعار أهل التصوف العاملين "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.