شعار قسم مدونات

الحضارات الإنسانية.. بين الصعود والهبوط

الفعل الحضاري المرُاكم لا يحمل جديدا في معناه أو مبناه الأساسي (الفرنسية)

جاءت إرادة الخالق بأن ينضبط هذا الكون بسنن لا تتبدل ولا تستثنى ولا تُغلب، هذه السنن يأتي على رأسها قانون الأسباب الذي يقضي بأنه لا نتيجة إلا بمقدمات مستوفاة، وكذلك لا يقع تغيير واسع ودائم في الواقع إلا بتدرج ووقت يتناسب مع هذا التغيير.

الفعل الحضاري يدور في فلك هذه السنن؛ فيكون تارة واجبا للإنتاج الحضاري (من أهم الأسباب لها)، وتارة يكون منضبطا بها (التدرج الممتد عبر زمان التفاعل الحضاري). وإذا كان هذا الفعل الحضاري يلعب هذا الدور المهم في دورة الحضارات فينبغي لمن أراد أن يسهم في البعث الحضاري والجهاد العمراني أن يفهم طبيعة هذا الفعل وأشكاله كحد أدنى حتى يتهيأ لوضع خارطة عمل وتصور زمني ينتجان تغييرًا وارتقاءً حضاريًا.

تتعدد أنواع الفعل الحضاري وتقسيماته في كتابات مَن نظر للتطور الحضاري في التاريخ؛ فمنهم من مثل تطور الفعل الحضاري للأمم بدورة فصول العام (أزفالد شبنغلر)، حيث تبدأ الأمة فعلها الحضاري باندفاعة وانبعاث من مكنون ثقافتها، وذلك فصل ربيعها، ثم تبدع في إنتاجها الحضاري والفكري، وذاك صيف دورتها، حتى إذا توقف هذا الإبداع بدأت زيادة واستنساخ ما هو قائم، وذلك يأذن بالخريف حيث تبلغ المادية المدنية أوجها، ثم عندما يجف معين الإبداع تماما ويفشو الاستبداد بصوره؛ يكون هذا شتاء النهاية لهذه الدورة الحضارية.

الفعل الحضاري المبدع هو ما يُنتج نموذجا أو منتجا أو طرحا جديدا على خلاف النمط الحضاري السائد، ويكون خلاصة العمل العقلي المشتبك بالواقع الحديث والممتلئ بالنسق الثقافي الأصيل للأمة

هذه الرؤية قريبة أيضا مما طرحه ابن خلدون في حديثه عن دورة العمران لدى الأمم، والتي تبدأ بصعود وقوة ثم ترف ودعة ثم هبوط وضعف مع تفصيل في كل منها. هناك أيضا مدرسة أخرى تقارب هذه الموضوع بتقسيم الفعل الحضاري إلى روحي ومادي، حيث يمثل المنتج الروحي قلب الحضارة المبدع، ويمثل الفعل المادي تجليات هذه الحضارة في الواقع في شكل مدنية متراكمة (انظر مثلا ماكيفر).

وليس المجال هنا لاستقراء كل أو جل ما كتب في التنظير للفعل الحضاري، ولكن المقصود هو بيان أن الفعل الحضاري المنتج للحضارة يمر بأطوار وينقسم إلى أنواع مختلفة؛ وفي ضوء هذا نطرح رؤية بسيطة ولكنها عملية لأنواع الفعل الحضاري وامتدادها الزمني ودورها في التغيير الحضاري. هذه الرؤية يمكن القول إنها مستوحاة مما طُرح سابقا، خاصة الرؤية المتعلقة بالتطور المرحلي وتسير في ركابها.

من الممكن تقسيم الفعل الحضاري على سلم يهبط من الأعلى إلى الأسفل وفق ما يلي:

  • الفعل الحضاري المبدع، وهو ما يُنتج نموذجا أو منتجا أو طرحا جديدا على خلاف النمط الحضاري السائد، ويكون خلاصة العمل العقلي المشتبك بالواقع الحديث والممتلئ بالنسق الثقافي الأصيل للأمة؛ فيطرح منظومة مختلفة وأفقًا جديدًا في ميادين المعرفة أو الفن أو القيم ليحل إشكاليات قائمة أو ينطلق في مسار حضاري جديد.
  • الفعل الحضاري المنتج، وهو الفعل المنطلق من أرضية سابقة فيزيد ويفصل ويكمل وينزل ما طرحه الفعل المبدع من نموذج وإطار على أرض الواقع ومؤسساته وتركيبة مجتمعه؛ ليبدو هذا الفعل في شكله جديدًا عن الواقع القائم، ولكنه في الحقيقة امتداد للفعل المبدع ولا يمكن تفسيره إلا من خلال النموذج الأول.
  • الفعل الحضاري المرُاكم، وهو الفعل الذي لا يحمل جديدا لا في معناه ولا في مبناه الأساسي، اللهم إلا بعض "الرتوش الخارجية" ليوائم تغييرًا بسيطًا في الواقع، أو ليبني على الفعل المنتج تطبيقا جديدا هو امتداد لسالفه، ولكن بثوب الزمان والمكان الجديدين؛ وبذلك يمثل حالة التشبع الحضاري (زيادة أفقية لا رأسية).
  • الاستهلاك الحضاري، وهو أدنى الدرجات لأنه في الحقيقة ليس فعلا بقدر ما هو رد فعل للآخر خارج هذه الحضارة، يستقبل ويطبق ما أنتجته ويتحدد بما تطرحه من إطار ومجال لا يخالفه. والعجيب أن من أنماط هذا الاستهلاك نمطا مخادعا يوحي إلى صاحبه بأنه منتج أو مراكم في هذه الحضارة، والحقيقة أنه لا يعدو كونه مستهلكا في شكل منتج.

البعث الحضاري والجهاد العمراني يستلزمان الصعود قدر الإمكان في هذا السلم لبلوغ الإبداع الحضاري المنتج للجديد المفيد للإنسانية

ولنحاول فهم هذه الأفعال ببعض الأمثلة؛ ففي عصر النهضة الأوروبية أبدع العقل الأوروبي المُنطلق من نسق ثقافي يعظم منفعة الإنسان ومركزيته ويرجو السيطرة على الكون، أقول أبدع هذا العقل معرفة في شكل علوم حديثة تدعم حركة الإنسان ليسيطر وينال رفاهية من خلال هذه العلوم. جاء الفعل الحضاري المنتج ليخرج مخترعات كثيرة؛ مثل الطاقة البخارية والماكينات وفنون الإدارة التي تجمعت في فعل حضاري منتج آخر يمكن تسميته نمط الصناعة الحديثة.

ومع مرور الوقت صار الفعل الحضاري داخل هذا النمط لا يعدو فعلا تراكميا في شكل تعميق هذه الصناعة ونشرها وتوسيعها وتشبيكها وتحسينها. على التوازي من ذلك قامت أمم أخرى باستهلاك هذا الفعل الحضاري في شكل استيراد تام واستنساخ كامل لهذه المنظومة (وبعضهم قام فقط باستنساخ المستوى الأدنى منها) من دون إضافة أو تغيير في بنيتها المعرفية. نحن بالطبع لسنا في مجال الحكم على هذه المنظومة الصناعية بأي حال وآثارها الحضارية، فذلك له موضوع آخر.

مثال آخر في الإبداع الحضاري؛ هو ما أنتجته الحضارة الإسلامية في مجال الملاحة منطلقة من نسق ثقافي يدعو للسير في الأرض عبادة وعمارة وتجارة، فأسست لهذا المجال علومه الأولية، ثم تبع ذلك فعل حضاري أنتج أعظم الخرائط والآلات الملاحية في ذلك الوقت، وتراكمت هذه المعرفة وهذه الأفعال داخل إطار المحيط الإسلامي، حتى جاءت أوروبا بوصفها مستهلكا حضاريا لهذه المنتجات أولا، ثم وظفتها في إطار إنتاجها الحضاري ثانيا في حركة الكشوف.

لا بد من وضوح معايير قياس كل فعل حضاري في ضوء النسق الثقافي والهدف الحضاري للأمة حتى لا تختلط الأفعال فيتوهم البعض أنهم منشغلون بالإبداع بينما هم ما زالوا ينسجون على منوال نموذج حضاري مخالف في إطار من الاستنساخ

في ضوء هذه الرؤية للفعل الحضاري وأنواعه، يمكن القول إن البعث الحضاري والجهاد العمراني يستلزمان الصعود قدر الإمكان في هذا السلم لبلوغ الإبداع الحضاري المنتج للجديد المفيد للإنسانية. ولكن هذا القول يحتاج إلى بعض الأمور التوضيحية لتكتمل صورة هذا البحث:

  • أولا: لا بد من التنويه إلى أن هذه المراتب ليست منبتة عن بعضها، بل قد تكون الأمة أو المجتمع في مجال ما على درجة التراكم، وفي مجال آخر مستهلك أو حتى منتج.
  • ثانيا: لا بد من تأكيد أن التحرك في هذا الإطار المتدرج للفعل الحضاري لا تحكمه الحتمية التاريخية كما تشير بعض نظريات التطور الحضاري سالفة الذكر، وإنما هو قانون الأسباب الحاكم لحركة الكون، ولذا لا بد من معرفة أسباب نجاح كل فعل حضاري يراد الوصول إليه كجزء من رؤية البعث الحضاري.
  • ثالثا: وفي سياق رؤية البعث الحضاري نفسها، لا بد من وضوح معايير قياس كل فعل حضاري في ضوء النسق الثقافي والهدف الحضاري للأمة حتى لا تختلط الأفعال فيتوهم البعض أنهم منشغلون بالإبداع لكنهم ما زالوا ينسجون على منوال نموذج حضاري مخالف في إطار استنساخ.

إني لأرجو أن ننشغل جميعا بإدراك واقع فعلنا الحضاري، ونعمل على تكوين وبث وعي فردي وجمعي لأمتنا لندرك أن مقام المستهلك لا يليق بنا، وأن الاستنساخ الحضاري لا يسعنا المكوث فيه طويلا فيولد هذا الوعي سعيا فرديا وجماعيا، رسميا وغير رسمي نحو المعالي من الأفعال الحضارية في شتى المجالات. إن الظرف التاريخي وحالة الاستلاب الحضاري يشكلان فرصة بقدر ما لإقامة تحد لننطلق في جهاد عمراني لكل واحد فيه سهم وأجر.

_____________________

المراجع

  • تدهور الحضارة الغربية ج1 ج2 ترجمة أحمد الشيباني وطباعة دار مكتبة الحياة- بيروت.
  • مقدمة ابن خلدون.
  • Civilization Versus Culture. R. M. Maciver. University of Toronto Quarterly, Volume 1, Number 3, April 1932, pp. 316-33

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.