شعار قسم مدونات

نحو تأثير أكثر رسوخاً.. من الأصوات الهادرة إلى الشبكات المنظمة

إحدى المسيرات الشعبية بالمغرب لدعم المقاومة والتضامن مع أهل غزة (الجزيرة)
إحدى المسيرات الشعبية بالمغرب لدعم المقاومة والتضامن مع أهل غزة (الجزيرة)

لا يستطيع المرء في غمرة أحداث غزة الحالية أن يتجاهل واقع المنطقة العربية والشرق الأوسط المتفجر، الذي لم يشهد خلال السنوات الماضية فترة راحة أو استقرار، بل استنزفت طاقاته ومشاعره وموارده في نكبات وكوارث متجددة بعضها بفعل عوامل الطبيعة والبعض الأخر بفعل أسباب سياسية داخلية وخارجية كانت أشد فتكا من الكوارث الطبيعية.

ومع كل نكبة وأزمة يعود نفس المشهد للصدارة، مواقف حكومية لا ترقى لمستوى الحدث، ومواقف شعبية عاطفية غاضبة تحاول أن تتفاعل وتؤثر رغم ضعف أدواتها، وهنا لا يمكن لوم شعوبنا العربية والإسلامية على ضعف مجالات تأثيرها فهي لم تحظ بالفرصة المثلى لتطوير وجودها ومعارفها وأدوات تأثيرها، ولكن ومع هذه الظروف الاستثنائية المتلاحقة من الصعب تقبل تكرار نفس النهج والاكتفاء بنفس النتائج، في وقت قد يكون إحداث تغيير في نمط وشكل التفاعل أمرا واجبا.

ولأن الحكمة ضالة المؤمن، يبحث عنها ويستخدمها بما يخدم واقعه وأهدافه، يصبح تعلم الدروس من الآخرين والإفادة من تجاربهم وأدواتهم فرضا، لتحقيق مصلحة عامة واكتساب خبرات يمكن أن تحول أصوات الملايين من الأفراد والمنظمات والهيئات من مجرد صيحات هادرة إلى ملفات ضغط ومشاركة حقيقية.

تمثل آلية الاستجابة للأزمات في الاتحاد الأوروبي حالة من التنسيق المنظم التي تشترك بها دول الاتحاد الأوروبي من أجل الوصول إلى قرار سريع ومنظم في حالات الأزمات القاهرة، بشكل يعكس سياسة موحدة متناغمة لأعضاء ومؤسسات الاتحاد

ماذا نعرف عن آلية الاستجابة للأزمات في الاتحاد الأوروبي؟

أنشأ الاتحاد الأوربي منظومة أوروبية للتفاعل مع الاحتياجات الطارئة، والتي ظهرت بشكل جلي عقب العديد من الأزمات التي ضربت المنطقة والعالم، سواء كانت كوارث طبيعية كالتسونامي والزلازل، أو أزمات من نمط آخر كهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهجمات مدريد 2004، وذلك لضمان الاستجابة للاحتياجات الناجمة عن هذه الكوارث والأزمات.

وتمثل آلية الاستجابة للأزمات في الاتحاد الأوروبي حالة من التنسيق المنظم التي تشترك بها دول الاتحاد الأوروبي من أجل الوصول إلى قرار سريع ومنظم في حالات الأزمات القاهرة، بشكل يعكس سياسة موحدة متناغمة لأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، ويضمن زيادة الاستفادة من الموارد.

تجمع هذه الآلية الجهات الفاعلة والأعضاء المتضررين، وتعمل على ضمان التنسيق ومعالجة الثغرات، وذلك من خلال مشاركة المعلومات وتنسيق التعاون وتنسيق الاستجابة على المستوى السياسي، والمتابعة الدائمة الإعلامية والتحليلية لتغيرات الوضع وتزويد المقررين الدوليين بأخر الأخبار والمعلومات وفق ثلاثة مستويات تشغيلية حسب الحالة، وضع المراقب الذي يركز على مشاركة التقارير، ووضع تبادل المعلومات وإنشاء تقارير تحليلية واستخدام منصات يمكن من خلالها الاستعداد لاي تصعيد محتمل، ووضع التنشيط الكامل الذي يتضمن الانتقال إلى تدابير استجابة ملموسة عند حدوث أي كارثة، وتتحمل الدولة التي ترأس هذه الآلية قرار اعتماد وتفعيل الوضع المطلوب وفق لمعطيات الواقع.

استخدمت هذه الآلية المخصصة للاستجابة للأزمات خلال الحرب الروسية الأوكرانية، وعند انتشار جائحة كوفيد وخلال أزمة الهجرة التي اجتاحت الاتحاد الأوروبي بين عامي 2013-2015، وكذلك في زلزال السادس من فبراير، شباط الذي ضرب كلا من سوريا وتركيا، ومؤخرا مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة،

وقد يبدو أن الهدف الظاهر لهذه الآلية تنسيق العمليات الإنسانية، إلا أن واقع عملها لا يستجيب لقضايا الكوارث فقط، وإنما ينفذ مشاريع استراتيجية سياسية ضمن إطار الاستجابة للكوارث تتوافق مع سياسات الدول المشاركة، كأن تضغط هذه الدول مجتمعة لفرض حل سياسي مقابل تقديم مساعدات معينة، أو أن تطور موقفا أوروبيا موحدا على المستوى السياسي يضمن تناغما في السياسات وزيادة في التأثير والمصالح.

 

ما أحلم به هو أن نتمكن من إطلاق شبكة عمل عربية إسلامية عابرة للحدود والجغرافيا، تشابه في دورها آليات التعاطي الأوروبي مع الكوارث، تجمع معها منظمات المنطقة من مختلف الاختصاصات الإنسانية، والحقوقية، والطبية، والقانونية، والإعلامية، والتعليمية، والبيئية، وتتحرك بشكل متناغم منظم عند الكوارث

الحاجة إلى أدوار جديدة وشبكات فاعلة

قد يستعجل القارئ الحكم على هذه الفكرة في هذه الظروف بمجرد إيراد المثال السابق، ويصب جام غضبه -وهو محق- على الغرب المنحاز، وعلى الاتحاد الأوروبي الداعم لآلة الإبادة الإسرائيلية، وعلى آلياته ومساعداته التي لم تساهم في رفع الظلم عن المظلومين ولا تمكينهم وإنهاء معاناتهم، وقد يكفر العديد في عالمنا بالمنظومات القانونية والغربية التي تدعي مناصرتها لحقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية، وسط حالة العجز والإجرام التي نعيشها ونعاينها الآن.

يمكن أن أتفهم هذه الحجج الواردة، ولكني ما زلت أعتقد أننا فوتنا مجالات عمل ومساحات تأثير يمكن من خلالها تحقيق تغير ملحوظ في نمط الاستجابة للأحداث الحرجة، حتى لو لم تستطع إيقافه، وما زلت أحترم حالة التنظيم والتخطيط التي برع بها الغرب في إدارة شؤونه الداخلية والخارجية والتي مكنته من ضبط نظامه وآليات عمله، والتحكم بمصير الأخرين ومستقبلهم.

وأتمنى من القارئ المثخن بالآلام أن يتسع صدره لفكرتي، فلربما تلفت النظر إلى حلول مبتكرة وتفتح أفاقا جديدة، فليس أمامنا سوى خيارين، أن نستمر في الدوران في نفس الدوامة، نقع، ثم نغضب، ثم نشتم، ثم نحاول أن نداوي جراحنا ريثما تحين الأزمة الجديدة، أو أن نحاول شق طريق جديد خارج إطار الدوامة المرسومة، ننتقل فيه إلى حالة من التفاعل مع الحدث والتأثير به.

أدرك تماما أنه من العبث التعويل على أي تغير في السياسات الحكومية العربية المكبلة بالقيود والإشكاليات، إلا أنه لا يمكن أن نتجاهل قوة وحيوية الشعوب التي لا تفتأ تتفاعل مع الأحداث الدورية بشكل متكرر، وتطرح أفكارا ومبادرات نوعية، ولهذا قد يكون من اللازم أن تتحد هذه العقول وتلك المبادرات ضمن مسارات عمل مدنية وتنظيمات مجتمعية تملكها بعض أدوات القوة الغائبة.

ما أحلم به هو أن نتمكن من إطلاق شبكة عمل عربية إسلامية عابرة للحدود والجغرافيا، تشابه في دورها آليات التعاطي الأوروبي مع الكوارث، تجمع معها منظمات المنطقة من مختلف الاختصاصات الإنسانية، والحقوقية، والطبية، والقانونية، والإعلامية، والتعليمية، والبيئية، وتتحرك بشكل متناغم منظم عند الكوارث، وفق منظورها الخاص والمستقل، بهدف تبني مواقف موحدة، وممارسة المزيد من الضغوط تحت ستار الدبلوماسية الإنسانية، فتقوم بالتنسيق و الضغط وتوثيق جرائم الإبادة، وتحريك الدعاوى، والتصعيد المخطط والمنظم على المستويات كافّة أفقيا وعموديا، بحيث تصبح كيانا مدنيا يصعب تجاهله أو تهميشه، يعرف مداخل التأثير وأدواته ويتحرك فيها بما يمثل إرادة الشعوب ويتحرر من سياسات الحكام.

ليس التحدي في الفكرة بحد ذاتها، بقدر ما هو تحدٍ في جمع هذه المنظمات والتشكيلات التي تتفاوت تجاربها وفقا لساحات عملها، وتتفاوت مستويات نضوجها الإداري ومصالحها، وتتفاوت خلفياتها الثقافية وإمكانياتها، وليس التحدي في تجميع هذه المؤسسات والكيانات معا بقدر ما هو تحدٍ في تحويل هذا التجمع إلى حالة مؤسسية بمعايير عالمية وبأعلى درجات الحوكمة، تتمكن من تجميع الخبرات العربية والإسلامية المتناثرة وتأمين فرصة لتفاعلها بشكل نوعي مثمر، والانتقال بالمجموع من التأثير المحلي والقومي إلى التأثير والفاعلية العالمية.

لقد عاش جيلنا أحلام الوحدة، وشب على قصص التاريخ التي تغنت بالدول العظيمة التي امتدت على قارات، ولا زلنا نشعر بالعجز ونتأمل عودة ذلك النموذج الذي يعكس القوة والعظمة، دون أن ندرك أن زماننا بما فيه من تفاعلات وتغيرات عميقة يفسح لنا المجال نحو أنماط جديدة من التعاضد ونماذج جديدة من القوة، ولئن كانت الآلام والمحن تجمعنا، فمن المفترض أن تجمعنا المصالح بشكل أكبر، ولئن كانت مفاتيح التأثير السياسي مرهونة بالحكومات، فمفاتيح التأثير المدني والإنساني لا تزال حرة، تنتظر من الشعوب المنكوبة أن تنهض من تحت الرماد معلنة أنها موجودة وصاحبة رأي وقرار، لن تقبل أن تؤطر في دور الضحية، وستقف مجتمعة في وجه أي اعتداء إنساني سافر يطال أيامنها، وستجعل كلفته باهظة جدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.