شعار قسم مدونات

في حضرة الحدث الفلسطيني.. عندما تعاد برمجة الشعوب!

مظاهرة مليونية في جاكرتا للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة والمطالبة بوقف إطلاق النار (رويترز)

لم يكن السابع من تشرين الأول لعام 2023 يوماً عادياً، وإنما سيُسطر ضمن الأحداث الاستثنائية التي هزت العالم من شرقه لغربه، واستنفرت لأجله دول عظمى وقفت على ساق واحدة في محاولة للبحث عن مخرج من الأزمة، وتحركت حكومات وجيوش وأساطيل حربية وإعلامية لاحتواء المشهد وترقيع الهزيمة.

وفي ظل هذه الضوضاء والصخب حول الانحياز الغربي واضح المعالم في كافة السياقات، لا يمكن للمتابع رغم هذا الكم الكبير من الألم والعجز والوحدة، وهذا السيل الطاهر من الدماء المباركة الزكية، إلا أن يقف متعلماً من الحالة الفلسطينية التي لا تزال تعطي الجميع الدروس يوماً بعد يوم.

مع كل تصعيد عسكري يطال أرض فلسطين أتأمل بعمق كيف يتحرك الفلسطينيون، وكيف يديرون معركتهم الإعلامية والإنسانية والسياسية، وكيف يستطيعون ببراعة فائقة النظير أن يحشدوا الملايين مرة أخرى في وقت قياسي وصوت واحد وهدف واحد، وهو أمر يستدعي التمعن والتحليل وتعلم الدروس لكل من يريد أن تبقى قضاياه العادلة حيّةً، متحركة، مؤثرة.

لم يكن خفياً على أحد يوماً قوة الماكينة الإعلامية الصهيونية وحرفيتها في قلب الحقائق، وقدرتها على التأثير على العالم أجمع باستخدام كافة الأدوات الممكنة، ولكن هذه الماكينة بدأت تتعثر وتتخبط مع ظهور ماكينة إعلامية فلسطينية موازية

وقفات مع الحدث والتفاعل الشعبي

لقد أبدع الفلسطينيون سابقاً في إدارة أحداث الشيخ جراح والانتهاكات التي صاحبته، وأعادوا هذا الإبداع مجدداً مع طوفان الأقصى، طوروا أدواتهم حالياً في عملية التحشيد وعملية المناصرة، والتي تعرف غربياً باسم " Advocacy"، وهي مهارات جديدة على عالمنا العربي مارسنا بعضها بشكل فوضوي دون دراسة أو دراية، ولم ندرك حقيقةً مكامن التأثير في هذه الأدوات، وقدرتها على إعادة صياغة الرأي العام وصولاً إلى التأثير على صناع السياسات.

لم يكن خفياً على أحد يوماً قوة الماكينة الإعلامية الصهيونية وحرفيتها في قلب الحقائق، وقدرتها على التأثير على العالم أجمع باستخدام كافة الأدوات الممكنة، ولكن هذه الماكينة بدأت تتعثر وتتخبط مع ظهور ماكينة إعلامية فلسطينية موازية، عملت بموارد متواضعة وبجهود دؤوبة تراكمية، حركها أصحاب قضيةٍ عادلةٍ محقة انطلقوا من إيمانهم العميق بضرورة النضال لاستعادة حقهم المسلوب، ومسؤوليتهم التاريخية والدينية والإنسانية تجاهه.

مما يلفت النظر عند أي تصعيد صهيوني، هو سرعة التفاعل والاستجابة عند أطياف الفلسطينيين عموماً داخل فلسطين في عموم المناطق، وضمن دول الطوق ومخيماتها وفي دول المهجر، فتراهم يهبون هبة رجل واحد شباباً وشيوخاً، نساءً ورجالاً، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو مشاكلهم السابقة، مظهرين حالة من وحدة الصف والتحشيد الداخلي والترفع عن المعارك الجانبية.

ومن المثير للإعجاب حقاً إلى جانب سرعة تشكل هذه الحاضنة المتكاتفة داخل فلسطين وخارجها، تلك الروح الغاضبة المتأججة التي لم تتقاعس أبداً ولم تنشغل بالنواح واللوم، وإنما تنطلق كل مرّة كالبرق الخاطف يصعق ويشعل ما حوله، وتنقل ذات المشاعر كالصدمة الكهربائية في عروق وجسد الأمة العربية والإسلامية لتهب متفاعلة مع الحدث من جديد، بعد أن انشغلت أو تشاغلت عن هذه القضية المباركة.

ومع هذا الاستنفار يظهر للعيان ثمرات سنوات من العمل والتحشيد الشعبي حول القضية ومفهومها وروايتها، ويظهر تأثير العمل المدني الفلسطيني على هوية وضمير أجيال لم يعرفوا فلسطين إلا في الصور، لكن نبضها وحبها وارتباطهم بها يوحي بأنهم ولدوا تحت بياراتها وشربوا من عذب أنهارها، فلا يمكن أن تفرق فلسطيني الداخل عن الخارج، فالكل ينبض بنفس الوتيرة، ويتحدث بنفس اللغة، ويتفق على نفس الرواية ويرفع نفس المطالب ويرد بنفس الحماسة والحرقة، ويواجه الحجة بالحجة والدليل بالدليل.

لقد أنتجت المحنة الفلسطينية رغم قساوتها وطول أمدها شخصيات مميزة في مختلف المجالات، وكشفت عن أقلام ومفكرين وأدباء وباحثين ومتحدثين وإعلاميين وناشطين وفنانين يقاومون بمختلف الأدوات، لم يركنوا إلى أبراجهم العاجية، بل اشتبكوا مع واقعهم وتركوا بصماتهم وقدموا نموذجاً فريداً عنوانه الإصرار والثبات والعمل الدؤوب،  فأحرجوا الماكينة الإعلامية الغربية المنحازة، ووضعوا في مسيرها الأحجار والعراقيل، وكشفوا عوارها وانحيازها وأزعجوها، وأعادوا استخدام الإعلام الجديد ببراعة ودون هوادة رغم التضييق والحجب والتقييد،  فاستطاعوا نشر روايتهم والتشكيك برواية العدو، وهز صورته ووجوده.

لقد صاغ الفلسطينيون لمفهوم المقاومة معاني جديدة، توسعت عن المفهوم العسكري، فتحولت فكرة المقاومة إلى قيمة شعبية صاغت شخصية الفلسطيني وذابت في مورثاته، وحضّرته لمعركة طويلة تفنن فيها باستخدام كل الأدوات المتاحة من التدوين، للفن والإعلام، إلى صناعة الأيقونات، إلى التمسك بالتراث، والطعام واللباس، والأهم من ذلك الإيمان عجنته بفكرة العودة والإصرار عليها وقدسية الحقوق والنضال وعدم التسليم، أو الاستسلام، أو القبول بالحلول المتجزأة ،أو المنقوصة، فشكلت هذه القيم هوية الأجيال التي تابعت المسير.

لقد استطاع الفلسطينيون أن يقلبوا المعادلة، ويفرضوا روايتهم وقضيتهم، ويشككوا في سردية عدوهم، ويطالبوا الجميع بالانحياز لمواقف أخلاقية إنسانية ولو كان ثمن هذا الانحياز طائلاً، ولم يكن لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه لو بقوا أسرى لحالة اليأس والعجز وأدمنوا النواح

بداية الانتصار.. عندما تتغير الأفكار

لم يكن ليخطر على بال أي منا في فترة سابقة أن نشاهد الملايين تتجمع في الساحات الكبرى في أكبر العواصم الغربية حول العالم، معلنة تضامنها مع الفلسطينيين وقضيتهم، تدين العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف المدنيين بشكل صريح، ولم يخطر على بال أحد منا أن يرفع برلمانيون غربيون وناشطون أجانب أصواتهم منددين ومستنكرين تلك الجرائم الممنهجة وتلك الانتهاكات لحقوق الإنسان، وهذا الاستهداف الجائر للمدنيين والنساء والأطفال، في دول متعصبة حليفة للكيان تدعمه بلا حدود.

لقد استطاع الفلسطينيون أن يقلبوا المعادلة، ويفرضوا روايتهم وقضيتهم، ويشككوا في سردية عدوهم، ويطالبوا الجميع بالانحياز لمواقف أخلاقية إنسانية ولو كان ثمن هذا الانحياز طائلاً، ولم يكن لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه لو بقوا أسرى لحالة اليأس والعجز وأدمنوا النواح واعتمدوا البكائيات والغضب المعطل، لم يكن لنشهد هذه النتيجة لو لم يحولوا ألمهم وغضبهم وعواطفهم إلى برامج عمل مدروسة لا تستثني أحد، تعمل على بناء الكوادر والحواضن التي ستتابع المسيرة.

لقد أحرج الفلسطينيون العالم أو من يملك ذرة ضمير بينهم – وأحرجوا العالمين العربي والإسلامي أيضاً، بإصرارهم على المضي نحو هدفهم رغم عدم امتلاكهم الأدوات والاختلال في موازين القوة، وأحرجوا العالم مرة أخرى عندما صنعوا من "لا شيء" قوةً وعزيمةً ومشروعاً انطلق هادراً، لن يتوقف قبل أن يصل إلى هدفه.

لقد أثبت الفلسطينيون أنهم كغيرهم من الشعوب، ورغم مشاكلهم وخلافاتهم الداخلية والتدخلات الخارجية، إلا أنهم قادرون على التوحد حول الهدف المشترك والغاية الأسمى، وهم قادرون على رفع الراية وإدارة المعركة وتحشيد الحشود التي راهنت الحكومات على تغييبها، وعلى إعادة صناعة أوراق القوة التي يمكن بها قلب الموازين السياسية وقلب الطاولة ومعادلات التفاهم وإعادة صياغتها من جديد.

لم يستطيع الفلسطينيون حتى الآن استعادة حقوقهم أو بلوغ هدفهم، لكنهم فرضوا أنفسهم في المشهد شريكا وفاعلا لا يمكن تجاهله أو تسطيحه أو خداعه، ووضعوا قواعد جديدة للعبة تجعلهم قادرين على التأثير، مؤكدين مراراً أن الحلول السياسية الترقيعية لن تجلب السلام المزعوم طالما أنها لم ترق لطموحات الشعوب، ولن تقدر على إخضاعهم وإقناعهم بالتنازل عن حقوقهم الأصيلة.

لقد أثبت الفلسطينيون بالتجربة أن القضايا المحقة العادلة لا تعيش مالم يكن لها أنصار وحشود تؤمن بها وتعيش حياتها من أجلها، وأن هذا الإيمان يجب أن يترجم إلى خطة عمل استراتيجية، تعيد صياغة هوية وشخصية أفرادها لتركز على الهدف وتسعى له، وتبذل من أجله الغالي والنفيس، فالعدالة في هذا العالم تُصنع وتنتزع ولا تقدم على طبق من فضة، ودهاليز السياسة وحدها لا يمكن أن تسترجع الحقوق مالم يكن وراءها أفراد يحملون أوجاع شعوبهم و يفاوضون على مطالبهم، فلا أحد يأتي للضعفاء بحقوقهم، ولا تموت القضايا إلا باستسلام أصحابها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.