شعار قسم مدونات

المثال اليوسفي وحلف الفضول المأمول!

أطفال غزة
يجب أن نهتم بمعاناة الآخرين والسعي لخدمتهم (غيتي)

لطالما استنبط المستنبطون من قصة سيدنا يوسف عليه السلام معاني عقدية، وفقهية، وتربوية، والتفتوا إلى الجوانب المتصلة بالحكم، والتشريع، والعلاقة بين المؤمن في مجتمع غير مؤمن، لكن ثمة ملمحا إنسانيا يجب الالتفات إليه.

فسيدنا يوسف عليه السلام نبي مرسل لقومه من بني إسرائيل، ولأهل مصر الذين عايشهم، وعاصرهم، والظاهر أن بعض المصريين ظل مترددا في قبول نبوة سيدنا يوسف عليه السلام، وأن ذكراه ظلت محفوظة حتى عصر موسى عليه السلام، حيث يقول مؤمن آل فرعون: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) (غافر: 34)، ولهذا فإن قصة يوسف عليه السلام تكتسب مشروعية من التفصيل القرآني لها، والذي بقي على إطلاقه فهو يحمل الخبر الصريح، والصحيح، والذي استنبط منه بعض المعاصرين جواز العمل، والعيش في المجتمعات غير المسلمة، وتحت أنظمة أخرى بضوابط محددة.

الدرس الذي نستفيده نحن المؤمنين إذ نقرأ قصة سيدنا يوسف عليه السلام هو أن نلتفت للمعنى الإنساني العام في الاهتمام بمعاناة الآخرين، والسعي لخدمتهم، ومشاركتهم أتراحهم

  • ولكن السؤال الأهم لما يطرح بعد: وهو مركب مما يلي:

إن سيدنا يوسف عليه السلام لم يربط مساعدته في تفسير رؤيا الملك بإيمان أو بكفر، ولم يكتف في تفسير الرؤيا بتفكيك رموزها بل قدم الخطة المالية الاقتصادية الواجبة الاتباع لحل المشكلة المتوقعة، وذلك كله بدون أي مقابل، فلم يطلب منهم الإيمان به، وبنبوته، ولا بالله الواحد القهار، ولم يخاطبهم خطاب النبوة في الأصل، بل لم يقم حتى بالمطالبة بمقايضة حريته الشخصية المستحقة إلا بعد فتح باب التحقيق في القضية القديمة التي كان بريئا منها تماما.

هذا المستوى فعليا هو ما يليق بالكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم عليهم الصلوات والتسليم جميعا، ولهذا فما ينبغي الالتفات له ابتداء أمور هامة:

سيدنا يوسف عليه السلام عندما تحدث للفتيين السجينين، قدم مقدمة عامة في الإيمان بالله، وأهمية التوحيد، وقدم تصورا متكاملا حول عقيدته الدينية، وعرف بأن هذا نهجه، ونهج آبائه عليهم السلام، وتحدث عن تلك الملة، وفي المقابل، فإنه فسر الرؤيا، وأخذ بالأسباب.

وفي المقابل، فعندما جاء للشأن العام تمهل، ولم يقم بالدعوة الدينية إلا في الظروف المواتية، وهذا من الفطنة الدعوية، وهي من مستلزمات النبوة، وصفاتها، وليس لدينا شك في أنه قام بالدعوة النبوية، وأتى قومه المدعوين بالبينات.

ولنلاحظ ترتيب الأحداث بهدوء، جاء الساقي، وعرض الرؤيا، وفي ثنايا كلامه لهفة لحل معضلة خطرة، ولكن يوسف عليه السلام لم يهتم بتجاهل الساقي لقضيته، ونسيانه له، بل فكر بحس الواجب تجاه أمة في خطر مجاعة محدقة، فقدم التفسير، والتدبير معا، ولم يطالب بفتح التحقيق في قضيته، فلما جاءت الفرصة، طلب فتح التحقيق ليخرج مؤكدا قيمة الصلاح والإصلاح، فلو خرج دون تبرئة ساحته لظلت الأقوال تتردد حول مدى براءته، ولكنه جرت تبرئته في سياق منفصل عن علم النسوة بأمر اتصاله بالملك، واهتمامه به.

فهل كان سيدنا يوسف عليه السلام سيستطيع إحداث التغيير المأمول وإنجاح خطته الاقتصادية في بيئة فاسدة، ويحتمل أنه إذا حاول الإصلاح أن يقال له: خرجت من السجن بواسطة الملك، وأنت مدان في الحقيقة بتلك الفعلة، لكنه خرج بريئا وهي الحقيقة المحضة التي لا يشك فيها مسلم، ولهذا فإنه خرج واثقا من نفسه، يستطيع الإصلاح بقوة، ودون أن يقدر أحد على المساس بسيرته الكريمة.

وعندما قام بالتدبير تمكن من إحكامه بحيث استطاع إنجاح التدبير المالي باستمرار الحركة التجارية مع العالم عبر إدارة المخزون الغذائي بذكاء، وجاءه إخوته في خضم هذه الحركة الدائبة، وجرت القصة بتفاصيلها، وألزمهم الحكم بشرعهم الذي يدين هو نفسه به.

الحقيقة التي تواجه الأقليات المسلمة في الغرب هي في أهمية إدراكها لواجبها تجاه المجتمعات التي تعيش بينها، وأن تحتذي المثال اليوسفي في التعامل، وقد أثبتت التجارب أن النماذج الناجحة تركت بصمتها بقوة هناك، ولا أدل على ذلك من زويل، والراوي، وغيرهم الآلاف من العقول

  • ولكن ما علاقة كل هذا بحلف الفضول الذي نأمله في وحي أحداث غزة؟

إن الدرس الذي نستفيده نحن المؤمنين إذ نقرأ قصة سيدنا يوسف عليه السلام هو أن نلتفت للمعنى الإنساني العام في الاهتمام بمعاناة الآخرين، والسعي لخدمتهم، ومشاركتهم أتراحهم، وقد يقول قائل: نحن المسلمون لدينا الهموم التي تكفينا، والأولوية سد الثغرات التي تواجهنا، وتواجه أمتنا.

لكن الحقيقة التي تواجه الأقليات المسلمة في الغرب هي في أهمية إدراكها لواجبها تجاه المجتمعات التي تعيش بينها، وأن تحتذي المثال اليوسفي في التعامل، وقد أثبتت التجارب أن النماذج الناجحة تركت بصمتها بقوة هناك، ولا أدل على ذلك من زويل، والراوي، وغيرهم الآلاف من العقول، والكفاءات العربية في مختلف الأماكن، ثم إننا اليوم بتنا في مركب واحد اسمه كوكب الأرض، وإذا كنا نهتم بالمسلمين فهذا واجبنا الديني، ولكن اهتمامنا بالإنسان في كل مكان جزء من هذا الواجب الديني، ودونك يوسف عليه السلام، الذي تجاوز مظالمه السابقة، وأحزانه، وهو النبي الذي استرق، فتمكن من إنقاذ أمة، وتبليغ دعوة.

إن الأصل هو استشعارنا إنسانية الإنسان، وإدراكنا لاستحقاقه للخير الديني، والدنيوي، وأن نمنحه فرصة حل المشاكل الطارئة، والاحتياجات الأساسية بما يمنحه من هدوء النفس، وصفاء الروح ما يسمح له بالتفكير العملي في ما لدينا من دين، وأكثر من ذلك، فإن ما قام به تجار الحضارمة، وعموم المسلمين خصوصا في بلدان متنوعة من حسن المعاملة سهل على غير المسلمين استكشاف الدين، وفهمه، ثم اعتناقه، فلا يلزم القيام بالدعوة بصورة مباشرة في كل موطن لنبدو كأننا أدينا واجبنا حقا، فواجبنا نحو الإنسانية نثاب عليه "ففي كل كبد رطبة أجر"، والأجر هنا واسع من خير الدنيا لخير الروح، كما أن الدنيا دار مشتركة فلكل فيها نصيب.

  • هل أحدث سيدنا يوسف عليه السلام تغييرات في التشريعات والنظام والملك؟

لا أحد يدري، وربما لم يكن في شرعته شيء من ذلك، وربما كان، ولم يتح له إنفاذه لكن الثابت أن مثاله في إشاعة الخير، وإعمال قيمه فيمن حوله لا بد أنه ترك أثره، وبصمته في التشريعات ذاتها، وتفاصيلها بصورة من الصور، رغم أن النظام في الغالب بقي كما هو، ولم يتغير، بقي خليطا ممن آمن بسيدنا يوسف عليه السلام ممن هو في شك من دعوته.

إن سيدنا يوسف عليه السلام درس ممتد يعلمنا إمكانية عبور الخير للمجتمعات كافة، وأن يكون عبور الخير المادي الدنيوي جسرا يمر عبره الخير الروحي مطمئنا هادئا متاحا لمن يختار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.