شعار قسم مدونات

بين روسيا والغرب

أميركا هندست النظام الروسي مخابراتيا لعقود لكن تظل روسيا ككيان "عدوا" كما صرح بذلك بايدن قبل مجيئه رئيسا (غيتي إيميجز)

الدعاية الأميركية الغربية منذ الحرب العالمية الثانية هي البروباغندا القوية المهيمنة على العالم بقوة الدعاية، وقد وصلت هذه الدعاية إلى ذروتها دون أن يستطيع أحد إيقافها في حرب تحرير الكويت التي كانت أوضح ما يكون مثالا للهيمنة الأميركية على العالم، وبعد انتهاء القرن الـ20 -الذي كان قرنا أميركيا بكل المقاييس- عملت الآلة الدعائية الأميركية على شن حربين حشدت لهما ماكينة الدعاية أبشع ما يكون في أفغانستان والعراق لهدم بلدين مسلمين.

لكن العجيب اليوم أن تحاول ماكينة الدعاية الأميركية -على استحياء- عمل نفس البروباغندا، مع أنها هذه المرة لا تستطيع إشعال الحرب بنفس الطريقة ولكنها تستطيع إشعال البروباغندا الدعائية دون أن تحارب برجالها على الأرض وتدعي أنها تمارس نوعا آخر من الحرب هو حرب العقوبات وحرب الاقتصاد على روسيا.

وبالطبع، لا يخفى على المحلل السياسي مدى ضعف النظام الأميركي اليوم في فرض هيمنته، بل ومدى ضعف رئيسه التقليدي بايدن الذي يخضع لقيود، أخطرها فشل حروب أميركا السابقة وتراجع أميركا الكبير في العالم على مدى عقود، لكن تظل البروباغندا الأميركية الآسرة والمستحوذة على آذان الناس في العالم تمارس طنينا يغطي على كل شيء.

وبالطبع، على الجهة الأخرى إمبراطورية عاشت كإمبراطورية قيصرية ثم تحولت إلى إمبراطورية شيوعية ثم كُسرت كسرا وانتزع منها أهم أجزائها بعد موسكو وهو أوكرانيا، انتزع هذا الجزء أو تحرر لكن الغرب -وعلى رأسه أميركا- يريد أن ينطلق بهذا الجزء القوي الذي يحتوي وبلا شك على أعظم تكنولوجيا صناعية وإلكترونية ونووية وفضائية خسرتها الإمبراطورية السوفياتية السابقة أثناء تفككها وسط ما خسرت وهي تتداعى من ضربات حرب باردة آلت بها إلى الهزيمة والتفكك.

لكن، هل ينجح الدب الروسي في الهيمنة على أوكرانيا التي يراها ملكا له؟ وإذا نجح فبالتالي: هل ينجح التنين الصيني في انتزاع تايوان؟ فيزداد تعري أميركا شيئا فشيئا لتسير نحو الهاوية، لكن كل هذا لن يوقف الجشع والتوحش في عالم هيمنت عليه قوى سمت أنفسها قوى عظمى دون أن تتحلى بأي قدر من عظمة أخلاق القوى، بل ظنت العظمة في التوحش.

وسط هذا الخضم بدأ بوتين حربه على أوكرانيا ولم يتفاجأ الغرب بذلك، وكان الأميركيون والدول الغربية الكبرى يتوقعون الهجوم الروسي عليها، ولكنهم من المؤكد أنهم لن يحاربوا إلى جانبها، وهذه حسابات بوتين الواقعية جدا، ولذلك بدأ هجومه بكل ثقة بالنفس والغرب يعلم يقينا أنه سيفعل ذلك، وهو يعلم أن الغرب يعرف أنه سيفعل ذلك، ومع ذلك يعلم يقينا أنه غير قادر على منعه عسكريا.

لكن بوتين يعلم مدى الضغوطات التي في أيدي الغرب وكلها أوراق سياسية واقتصادية إن ضرته فستضر دولا غربية أيضا، من أهمها -على سبيل المثال وليس الحصر- خط الغاز الذي تستفيد منه أكبر الدول الغربية وهي ألمانيا.

أتعجب جدا من الفكر الغربي -الذي يدعي لنفسه بعد النظر وعمق الرؤية- كيف يعتمد إستراتيجيا على مصادر طاقة لدولة مثل روسيا الاتحادية يعتبرها الغرب وأميركا العدو الأول وريثة الاتحاد السوفياتي الشيوعي السابق ووريثة روسيا القيصرية الأرثوذكسية التي كانت عدوا للغرب الكاثوليكي والبروتستانتي على مدار قرون وحروب طويلة.

صحيح أن أميركا هندست النظام الروسي مخابراتيا لعقود، لكن تظل روسيا ككيان "عدوا" كما صرح بذلك بايدن قبل مجيئه رئيسا، وهذا يقول لي شخصيا إن الغرب ليس عميق النظرة وليس صاحب نظرة إستراتيجية بعيدة كما يظن البعض، بل يرتكب أخطاء كبرى في حق نفسه وفي حق الأمم نتيجة لقصر نظره وأنانيته الواضحة ونظرته المتهافتة، وهذه وجهة نظر أبنيها على كثير من الشواهد الحالية والتاريخية لحياة الغرب والاستعمار الغربي للعالم.

يبقى أن أوكرانيا على مدار التاريخ كانت شعبا يميل إلى الشرق أكثر من ميله إلى الغرب بصرف النظر عن العدوان الروسي على أوكرانيا وبصرف النظر عن أهمية أوكرانيا لروسيا وبصرف النظر عن ولائها لروسيا في المستقبل القريب من عدمه.

الاتحاد الأوروبي ليس على قلب رجل واحد حيال مشاكله الداخلية، فضلا عن أن يكون على قلب رجل واحد حيال روسيا، ولم يكن الاتحاد وحدة في قراراته رغم غناه وموارده الاقتصادية وقدرته العسكرية للدول الكبرى الأعضاء.

ولذلك، يلعب بوتين بحرفية على التناقضات بين الاتحاد الأوروبي ليخرج بالاتحاد الروسي إلى مكان أرحب وأقوى بين الأمم، ويقول لكل أوروبا: ها أنا ذا قوة عظمى وقوة نووية أعود لأمارس نفوذا أكبر في العالم كله، في سوريا وشمال أفريقيا والعالم، بل وأوروبا، وكأنه يقول للغرب بلسان حاله:

تعالوا يا أميركا والدول الغربية الكبرى نعيد تقاسم مناطق النفوذ في العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.