شعار قسم مدونات

لن تكون أوكرانيا سوريا جديدة.. لماذا؟

تصميم لتحليل سياسي عن حرب أوكرانيا إن كانت تشكل بداية لنظام عالمي جديد،
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يمين) والرئيس الأميركي جو بايدن (الجزيرة)

كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي متحمسا جدا، مدفوعا بالوعود الغربية وشحنات الأسلحة التي أرسلوها، فلبس لأمة الحرب وشحذ همم شعبه ووزع السلاح وطلب الشباب للتعبئة. كل ذلك والمنطقة تنتظر الخطوط التي سيرسمها الدب الروسي بمخالبه، أما العم سام فلا يزال يتحسس سلاحه.

منذ بدء الحرب في أوكرانيا، يستدعي البعض المشهد الأشهر في فيلم الناصر صلاح الدين عندما دخلت الكاميرا "كلوز" (بالقرب) على وجه الفنان حمدي غيث أو ريتشارد قلب الأسد، ليقول جملته الأشهر: "كل حلفائك باعوك يا ريتشارد، واليوم آرثر الأمين".

لم يكن زيلينسكي قد نطقها بعد، لكن حاله وتردي الأوضاع أمام الآلة العسكرية الروسية وجنودها الذين استدعوا من كل حدب -من بيلاروسيا والشيشان وحتى سوريا- جعلته يصرخ بها في وجه قادة حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO) وصرح بها أمام شعبه، "الكل تخلى عنا وتركونا نحارب وحدنا".

قاعدة الأثلاث في تكوينات المشهد الأوكراني

قاعدة الأثلاث هي تلك القاعدة التي يستخدمها مخرجو السينما لرسم كادر المشهد لنقل المشاعر المقصودة من صانع الفيلم إلى المشاهد، وعليه فيمكن من خلال تقسيم كادر المشهد تحديد نقاط القوة في المشهد، لجذب عين المشاهد إليه ومن ثم التأثير على المتلقي بتلك النقاط التي أراد بها المخرج نقل ما يريد، ويستمد قوة المشهد من دقة اختيار المخرج لنقاط قوته ومدى تأثيرها على المتلقي.

ولأن للعالم مخرِجا واحدا يحاول رسم مشاهده، فإن الفيلم يبدو ضعيفا لأن المخرج لم يكن على مستوى الفيلم الذي يخرجه، فبايدن -الذي يمثل الولاية الثالثة لرئيسه أوباما- يمشي على نهجه لكن بمزيد من الوهن، فالرجل لا يحمل من المؤهلات ما يمكنّه من صناعة الدراما في العالم كما كان أسلافه الذين رسموا حدود القوة والنفوذ في العالم، واستطاعوا إسقاط الإمبراطوريات طوعا بعد الحرب العالمية الثانية، أو كرها بالقوة الناعمة بعد الحرب الباردة.

في المقابل، يظهر في الكادر من بعيد -في أحد الأثلاث المؤثرة في المشهد- ذلك الطامح المسكون بعظمة بلاده والساعي لصناعة مجد لبلاده قبل أن تضعه كتب التاريخ كصانع لذلك المجد، مستغلا حالة الضعف والتردد التي تعيشها الإمبراطورية الأميركية بانسحابات متوالية وتمحور حول الذات، وهي السياسة التي تتنافى مع طبيعة تكوينها أو الدور الذي لعبته منذ الحرب العالمية الثانية وإلى يوم الناس هذا، أو على الأقل ما يظنه الناس فيها.

 

الوعود هي الفخاخ التي يقع فيها الحمقى

لم تكن ثورة الميدان الأوروبي في أوكرانيا عام 2014 إنجازا غربيا بمعنى الكلمة، حتى مع وصول نظام موال للغرب، وساع للانضمام للاتحاد الأوروبي وحلفه العسكري؛ إذ إن الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش وإسقاط نظامه الموالي لموسكو منزوع الدسم، حيث استطاعت روسيا سلخ المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، وصولاً إلى إجراء استفتاء القرم عام 2014، ثم التدخل العسكري الروسي، وتأسيس دول بحكم الأمر الواقع في دونيتسك ولوغانسك، واليوم وفيما يبدو أن الغرب -وأميركا تحديدا- تكتوي بنار الثورات المضادة التي هندرتها  في الشرق الأوسط ويترنح حليفها في كييف منتظرا لحظة السقوط، إن لم يكن قد سقط وقت نشر هذا المقال.

وعود الغرب وصفقة وفاء البخلاء

يقول المثل الإسباني الوعود هي الفخاخ التي يقع فيها الحمقى.

سؤال أريد أن أطرحه على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأرجو أن تمهله الأقدار أن يرد عليه، هل كنت تصدق وعود الغرب -حين أرسلوا لك السلاح على استحياء- أنهم سيقاتلون معك؟

لقد كانت كل المؤشرات وتقديرات الموقف تظهر الحالة التي عليها الغرب وينطلق في مواقفه منها: تلكؤ مفهوم في إرسال السلاح، واستجابة مدفوعة بمساحات الضغط الأميركي لدول جوار أوكرانيا جعلت السلاح يصل إلى حدود الدولة المحتاجة لسلاح متطور أمام آلة الحرب الروسية الجبارة، لا سيما وأن كييف سلمت سلاحها طوعا للاتحاد الروسي بإيعاز من الولايات المتحدة التي نصحتها ووعدتها بتعويضها بحماية الحلف الأكبر في العالم، والدولتين الكبريين في الاتحاد الأوروبي -حتى آخر لحظة- تتحسسان سراويلهما لعلهما تجدان ما تتصدقان به لكييف، في وقت يحكّون فيه رؤوسهم لحل حساب معادلة الطاقة مع روسيا المعقودة في خط أنابيب نورد ستريم.

لقد كان الاتحاد الأوروبي كريما جدا مع أوكرانيا بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية التي وصفوها بالـ"صارمة" على روسيا، على الرغم من أن روسيا لا تحتاج للمزيد فلديها ما يكفيها، لكنها -مع ذلك- مستمرة رغم سنوات العقوبات؛ مثل إيران -التي تعيث في الأرض داعمة مليشياتها في المنطقة وتوسعت حتى أفريقيا لتصنع لها أوراق قوى- يوقع الآن بايدن أمامها بتنازلات مدفوعا بتلك الأوراق. مع ذلك، فإن تلك العقوبات التي أطلقها قادة الغرب، لحفظ ماء الوجه، إنما هي نتاج خلافات ومدفوعة بالضغط الشعبي، بعد التظاهرات التي خرجت في عواصمهم، حتى اقتراح إخراج روسيا من نظام التحويلات المالية العالمي "سويفت" لم يلق قبولا في قراءته الأولى، ولا أظنه سيمرر في الطرح الثاني، فالكل له مصالحه، وليذهب زيلينسكي وشعبه ليقاتلوا فالغرب هاهناك قاعدون.

قالها بايدن صريحة بأنه لن يرسل جنوده للقتال في أوكرانيا، وصفق الجميع لحكمة الرئيس الملهم، حامي بيضة العالم وحافظ انزلاقه نحو حرب عالمية، متمثلا بقول مرشد الإخوان في مصر ومتبعا خطاه حين صرخ على منصة الاعتصام: "سلميتنا أقوى من الرصاص"، تلك الحكمة التي اتفق معه فيها السيسي مستطلعا العواقب: "علشان ما نبقاش زي (حتى لا نكون مثل) سوريا والعراق".

بايدن حكيم العالم وحافظ أمنه وسلامه لن يرسل جنوده لأوكرانيا؛ لا لأنه يحافظ على أمن العالم ويطبق ميثاق الأمم المتحدة، ولكن لأن أوكرانيا ليست جارة لبلاده، وليست بها قاعدة عسكرية له، والأهم لا يوجد بها احتياطات إستراتيجية من البترول، كما أنها ليست شريكا تجاريا رئيسيا.

لن تكون أوكرانيا سوريا جديدة

رغم قنابل النابالم التي أنارت سماء كييف منذ أيام، فإن بوتين لن يقصفها بالكيماوي، ورغم مشاهد النزوح والهجرة التي تبثها شاشات القنوات الفضائية، فإن الأوكرانيين لن يقيموا في مخيمات 10 سنوات، ولن يصبح الأوكرانيون عبئا دوليا تلفظهم الحدود أو تستغلهم البلدان كرقيق أبيض، أو تسرق منهم فلذات أكبادهم مقابل مأوى ولقمة، ولن تشكل مجموعة باسم "أصدقاء أوكرانيا"، ولن يعقدوا لهم اجتماعا ينفض على اللا شيء، ورغم انعقاد مجلس الأمن والتصويت على قرار إدانة -لم تصوت فيه الإمارات- لن ترسل الجمعية العامة مساعدات إنسانية في رتل طويل من الشاحنات تحمل مستلزمات العناية الشخصية، كما حدث في مضايا التي ماتت جوعا وأرسل لها الشامبو بعد أن أكل أهلها الكلاب والقطط، وكادوا أن يأكلوا بعضهم بعضا، ولن يعتقل مئات الآلاف في سجون بوتين، أو يختفي مثلهم، ولن يسلط بوتين عليهم مرتزقته ليسقطوا البراميل المتفجرة عليهم، فتقطع أوصالهم من خلاف، ولن يشعر الأوكرانيون بمرارة الفرق ولا الغربة، على الرغم من فتح الدول المحيطة حدودها لهم، وفتح كندا أبواب بلادها أيضا لهم، فمن شاء فليخرج ومن شاء فليمكث، فدار أبي سفيان له ملاذ ولا مانع لديه أن يأويهم هو الآخر، فلقد تعلم من موقفه في الحرب السورية حين منع السوريين من دخول حماة. إذن لن تكون أوكرانيا سوريا جديدة لهذه الأسباب.

على الرغم من أن بوتين دكتاتور، وفق المعايير الغربية للتعريف، وعلى الرغم من أنه يرعى دكتاتورا سفاحا في دمشق، يقتل شعبه، ويشاركه القتل ليل نهار، فإن الرجل يراعي المعايير الدولية التي نصت عليها المواثيق في جنيف وبروتوكولاتها الإضافية والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العرفي، بالطبع يتوقف ذلك لو حقق هدفه بتراض بين الطرفين، والهدف بسيط، في حين لم يغيره مستفيدا من حالة التردد والضعف التي يعيشها الغرب، وهو إنشاء منطقة فاصلة بين روسيا وحلف الناتو، وهو ما قد يتحقق بالاعتراف بدونيتسك ولوغانسك وينضمان للاتحاد الروسي، أو بتنصيب حكومة موالية لموسكو بعد اجتياح كييف، وأظن أن الاتحاد الأوروبي الذي صرح بأنه يستطيع عبور "هذا الشتاء" من دون الغاز الروسي، سيفكر كثيرا في فصول الشتاء القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.