شعار قسم مدونات

النطاق المركزي عند كارل شميت

المنظِّر القانوني الألماني كارل شميت
المنظِّر القانوني الألماني كارل شميت

 

"ليس ثمّة عصر في أوروبا منذ القرن الـ16 لم يهيمن عليه نظام معرفي صارمٌ ومحدّد، يستمد من منظورٍ ما، قيمةً جوهريّة تحدد تصوّراته تجاه الأشياء والوجود. تأخذ هذه القيمة شكل الحقل أو شكل النطاق المركزي، الذي يقع في القلب من نطاقات ثانويّة عدّة"، هكذا تحدّث كارل شميت في مقالته الذائعة الصيت "عصر التحييدات ونزع السياسة".

سيقوم هذا المقال بتقديم قراءة وصفية لفكرة النطاق المركزي عند شميت بطابع نقدي ينزع إلى التفكير حول النص ومضامينه.

 

ربّما لا يعوز قارئا متأهّبا، اطّلع على السياق التاريخي العالمي والأوروبي -تحديدا في الربع الأول من القرن المنصرم- استحضار الحال النفسيّة والحضاريّة التي كانت تمرّ بها ألمانيا، بعد هزيمة أليمة أخذت بتلابيب المشهد الشعبي والفكري آنذاك. مثّلت الفترة الساخنة بين الحربين العالميتين الأوروبيتين مجالا خصبا للتأمّل والتنظير ومراجعة الحسابات، ولا سيّما تلك المتصلة بالأنساق الفكرية وتداولها وانقطاعها لأنساق أخرى متجددة.

وفي هذا الخط الزمني "الحداثي" الشاحب، أراد شميت أن يقدم تصوّرا يضع مسار الأفكار الأوروبية في وعاء تاريخي، بحيث ينسب فيه كل عصر إلى نموذج مهيمن، فيبدأ باستعادة المراحل التي تحركت فيها الروح الأوروبية بين العامين 1500 و1900، والنطاقات التي عرفت فيها هذه الروح "مركزَ وجودها الإنساني".

لقد سبق أن قام فيكو بتعميم قانون عام للتطوّر الإنساني، وانطلق من التحقيب الثلاثي الذي شهدته أوروبا، وهو اللاهوت -الميتافيزقيا- الوضعي، بيد أن شميت يرصد تحقيبا فكريا آخر بدأ باللاهوتي ثم انتقل إلى الميتافيزيقي فالإنسانوي فالاقتصادي. ولا يعتبر هذه النقلات تعبيرا عن قانون يندرج ضمن فلسفة التاريخ، بل يرى أن تبدل النطاقات لا يمكن اعتباره "خطّا متواصلا يسير فيه التقدّم إلى الإمام، أو حتى إلى الخلف".

استطاع كل انتقال من نطاق إلى آخر، أن يلقي بظلاله على كل تفاصيل الحياة الأوروبية، وقد عرفت الحياة الروحية الأوروبيّة 4 مراكز مختلفة، كان النظام المعرفي للنخبة الفاعلة يتمركز حولها.

 

في ضوء ذلك، فإن تبدل النطاقات الأربعة ليس سوى انعكاس لتبدل النخب المتسيّدة، وتطور مسلماتها اليقينية وحججها بشكل دائم، إضافة إلى كونه يشير لتحول جوهر اهتماماتها الروحية، مقابل استعداد الكتل الشعبية للتفاعل معه. ويشدد شميت على:

خطأ تأويل هذا التدرّج، وكأن كل هذه القرون الأربعة لم تسمح بوجود شيء سوى الحقل المركزي،

مما يرمز هنا بشكل واضح إلى فكرة النطاقات الثانوية، التي قد تتجسّد فيها نقائض النطاق المركزي، مُعبّرة عن شكلٍ من أشكال المقاومة.

ليست هذه النطاقات إذن قوالب مُجرّدة، لكنها نمط من المسلّمات يستمد طاقته وحقيقته من فكرة أصيلة، تُنسج حولها كل الأفكار، وتمتثل لها في أيّ شأن. فبالنظر إلى نطاق اللاهوت، يصبح السؤال الديني هو الرأس، وتكون كافة أسئلة الحياة تابعة له. وما إن يتصدّر نطاق ما حتى يكون بمقدوره حل جميع مشكلات النطاقات الأخرى، بل تغدو هذه المشكلات من رتبة ثانوية يتم الحصول عليها تلقائيّا بحل مشكلات النطاق المركزي. وهكذا، فإن كل شيء سيتم التحصل عليه -عفويّا- في العصر اللاهوتي، بمجرد التمكّن من التعامل مع الأسئلة اللاهوتية، وكل ما عدا ذلك فسوف يوهَبُ للإنسان وهبا.

لقد اقتصر الأمر في العصر الإنسانوي على تنشئة البشر وتثقيفهم أخلاقيّا، لتصبح جميع المشكلات تربويّة. وفي حين أن المرء في العصر الاقتصادي لم يكن يحتاج إلا إلى حل صائب لمشكلات إنتاج البضائع وتوزيعها، لم تمثّل القضايا الاجتماعية مشكلاتٍ حقيقيّة، أما بالنسبة إلى التفكير التقني المحض، فإن المشكلات الاقتصادية إنما "تُحَلُّ عبر الاختراعات التقانية الجديدة، في حين تتراجع جميع الأسئلة الأخرى بما فيها الاقتصادية، لصالح مهمّة التقدّم التقاني".

 

يطرح شميت مثالا يتعلّق بزلزال لشبونة الذي وقع في القرن الـ18، واستدعى "سيلا من الإنتاج الأدبي الأخلاقي"، ولو حدث زلزال اليوم فإنه لن يستدعي مثل ردّات الفعل الروحانية تلك.

بينما لو وقعت أزمة اقتصاديّة -كالهبوط الحاد أو انهيار أسواق المال- فلن تسترعي اليوم اهتماما عمليا فحسب، بل حتّى نظريا لدى الكثير من الناس.

ويبسط شميت أو يستزيد بمثال آخر، حيث ساد في القرن الـ18 تصوّرٌ عن أن التقدّم يعني بالدرجة الأولى تقدُّم التنوير والتعليم والسيطرة على الذات والتربية، أي الاكتمال الأخلاقي. أما في عصر الفكر الاقتصادي والتقاني فبات يُفهمُ من التقدّم -بديهيّا- التقدّم الاقتصادي والتقاني، أما التقدم الأخلاقي فبدا أنه حصيلة جانبيّة للتقدّم الاقتصادي والتقاني، هذا إذا كان لا يزال يسترعي اهتمام أحد ما".

وعلى الصعيد السياسي الذي يضارِعُ مخيال شميت وهواجسه -إذ لا تبدو مقالته هذه إلا بوصفها تفكيرا سياسيّا متحفّزًا- فإن الأمر ينسحب أيضا على الدولة التي "تستمد حقيقتها وطاقتها من الحقل (النطاق) المركزي السائد". وعندما كان اللاهوتي هو المركز كان لعبارة "الشعوب على دين حكّامهم" معنى سياسيّ. وما إن تضعضعت مركزية اللاهوت لصالح مركزيّة أخرى، تبدّلت هذه العبارة عبر سياق ثقافي للأمم الأوروبية -تخلله شعار "على قوميّة حُكّامهم"- نحو "على اقتصاد حُكّامهم"، بسبب نهوض نظامين اقتصاديين متناقضين هما الرأسمالي والشيوعي. ومما لا يخفى على عين الناظر هنا تقديم شميت لتطوّرٍ تاريخي (ثلاثيّ المراحل) مغايرٍ بشكل واضح عن القياس (الرباعيّ) الذي دارت عليه أطروحته، وهو -للمفارقة- ما لم يقم شميت بتبيانه على نحوٍ كاف.

 

وهذا يطرح سؤالا رئيسيّا مفاده: ما السبب وراء استقلال تطوّر المُثُل السياسيّة الثلاثة عن المُثُل الأربعة التي حكمت حركة التاريخ لدى الشعوب الأوروبية بين القرون 16-19؟ وأين يقع أثر عقيدة التقانة على النظم السياسيّة ولا سيّما في مرحلتها الأخيرة ضمن هذا التأريخ؟ يجيب شميت عن السؤال الثاني، ولكنّه لا يقدم تعليقًا على السؤال الأول.

 

تنشأ في طور تسلسل المراحل الأربع جملة من التحييدات الطارئة على الحقول الثانوية، ويرى شميت أن أهم الانعطافات الروحية في التاريخ الأوروبي وقعت في القرن الـ17 التي تجسّدت في الفصل بين منظومة اللاهوت المسيحي ومنظومة العلوم الطبيعية، وبناء عليه تم فرض هذا الفصل على النطاقات المركزية التي تشكلّت لاحقا، بمعنى أن النطاق الاقتصادي المركزي الذي دُشّن في القرن الـ18، والنطاق التقاني المركزي الذي تشكّل بعده، عَمِلا على تحييد/فصل اللاهوت بشكل مطلق. بل يقرر شميت أن هذا الانتقال من اللاهوتي/الديني إلى العلموي -بعد تجريد الدين وعزله- ترك أثرا بالغا في القوانين التي عُمِّمَت على تاريخ الإنسانية.

يُرجع شميت الدافع الرئيسي -المنسي والمهمل- خلف هذه التبدلّات الجذرية إلى"السعي لخلق حيّز حياديّ"، إذ بعد الجدالات الدينية العقيمة في القرن الـ16، اتجه الأوروبيون نحو البحث عن حقلٍ حيادي يتوقف فيه الخلاف ويتاح للمرء أن يؤسس مع غيره أرضيّةً للتفاهم والحوار. ولهذا السبب صُرفَ النظر عن مفاهيم اللاهوت المسيحي الانقسامية، وتوجيهه إلى بناء منظومة طبيعية شاملة للدين والميتافيزيقا والأخلاق والقانون. حينذاك حُيّد اللاهوت باعتباره حقلا مركزيا عبر انتزاع صفته المركزية، ثم بدأت تُنسج الأماني في سبيل حقلٍ مركزيٍّ جديد بإمكانه توفير الحد الأدنى من التوافقات والمقدمات المشتركة، الذي يضمن الأمن واليقين والتفاهم والسلم.

لقد أحدث مضمونُ مقالةِ شميت وتقسيمُهُ التأريخي للأفكار الأوروبية أثرا عابرا للعلوم، حيث نجده ينعكس في مصنّف توماس كون المعروف "بنية الثورات العلمية"، إضافةً إلى تجدّد الاهتمام به في التحليل السياسي المعاصر ودراسات تحليل ما بعد الاستعمار، كما يتضح في أعمال وائل حلّاق. ومما يسترعي الانتباه بعد عرض مفهوم النطاق وتحوّلاته، هو الاختزال النظري الذي يشوب منظور الحقل/النطاق، من خلال رد جميع التفاعلات إلى معطى واحدٍ رئيس يقبض بيده على مفاصل الفعل والتأثير، بجانب إغفال كارل شميت لأثر التحولات البنيوية التي مسّت البنى الاجتماعية والاقتصادية تحديدا، ولا سيّما تلك التي تقاطعت مع مداخيل الاستعمار -عبر إخضاع الأمم الأخرى ونهب ثرواتها- وديناميات العلاقة المركّبة بين العقليّ والماديّ، وما نسبة تأثير كل واحدٍ منهما في الآخر، وعمّا إذا كان أحدهما مستقلا والآخر تابعا. هذه جوانب مغمورة في ثنايا أطروحة شميت، على قدر أهميّتها في السياق.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.