شعار قسم مدونات

هل السعادة الرواقية ممكنة؟

بينما يؤرخ لتاريخ الفلسفة منذ القرن الثامن عشر بالنشأة الأوروبية واليونانية الخالصة، كان تأريخها قبل ذلك ينظر إليها كملكية عالمية للبشرية وللثقافات المختلفة

أثارت مقالتي السابقة عن موضوع السعادة من منظور الفلسفة الرواقية، جملة تساؤلات، وملاحظات، و انتقادات لهذه المقاربة من لدن بعض من طالعها من الأصدقاء القراء، عِلما أن أغلبها ليس جديدا، إذ ووجهت بها هذه المدرسة الفلسفية في زمنها، من لدن خصومها.
ولم يقتصر النقد القديم على إشكالية السعادة وحسب، بل استهدف البناء الفلسفي الرواقي بمجمله أي في مستوياته الأنطولوجية و المعرفية و الأخلاقية.

 

و حيث إن موضوعنا اقتصر على ما له علاقة بمفهوم السعادة فإنه يمكن أن نشخص أكبر اعتراض عليها في الرأي القائل – بلغة عصرنا-:
إن هذا المنظور الرواقي مغرق في الطوباوية، صعب التحقق عند السواد الأعظم من الناس، وهو يخفق في إدراك مركزية الشروط الموضوعية الكفيلة بتحقيق السعادة. و أن محاولة ربط السعادة حصريا بالعامل الذاتي، وتحميل الفرد وحده مسؤلية شقائه، قد يكون هروبا إيديولوجيا من مساءلة الواقع الاجتماعي في أبعاده السياسية والاقتصادية و الثقافية، ودور هذا الواقع في تحقق هذه الغاية الأسمى من عدمه. وهو هروب يصب في مصلحة الاتجاهات و القوى المهيمنة ثقافيا، و المسيطرة سياسيا و اقتصاديا.

 

إن أهمية ووجاهة هذا الاعتراض المُرَكّب، تمنحني فرصة لإضافة أو توضيح بعض ما لم أتمكن من ذكره أو إيضاحه في التدوينة السابقة:
إن الفلسفة الرواقية هي في جوهرها فلسفة زهد تدعو إلى أدنى حد من الارتباط بالأشياء الخارجية : مالا وسلطة وجاها و متعا حسية، فلم يكن غريبا تسللها من هذه الزاوية إلى تيارات وفرق ومذاهب دينية ذات منزع صوفي إشراقي داخل الأديان التوحيدية. كما لم يكن غريبا أن يقود إغراء المقارنة، بعض المهتمين إلى اعتبار البوذية هي رواقية الشرق، والرواقية هي بوذية الغرب، على أن الرواقي ليس متصوفا ذلك النوع من التصوف الذي يبغي خلاصا فرديا، بل هو حكيم يعمل بصبر و محبة، على مساعدة الآخرين في التحرر من أسباب شقائهم. ومن هنا البعد الاجتماعي في هذه الفلسفة عكس نزْعات زهدية أخرى جعلت من الانسحاب والقطيعة مع الجسم الاجتماعي شرط أساسا من شروط تحررها من رغبات الجسم البيولوجي .

 

أما إخراج الرواقية من طابعها الزهدي وإلباسها لبوسا رأسماليا و جعلها في خدمة هذا النظام، فهو يمثل صيغة من صيغ إعادة قراءتها في ضوء شروط موضوعية مختلفة، و أساس هذه القراءة المفرطة في التأويل من لدن ما يسمى بالتنمية الذاتية هو الانغماس في هذا المنظومة الرأسمالية، عوض محاولة التحرر من رغباتها غير المحدودة و المتجددة باستمرار. ذلك أن الرواقية و البوذية و التصوف داخل الدين التوحيدي، يكادون يتفقون على أنه كلما زاد تعلق الإنسان بالأشياء و الأشخاص، كلما زاد ألمه عند الفقدان و الفراق. وهذا يفسر لماذا عندما يخسر بعض الناس حبيبا أو قريبا عاشوا قبل خسارته على إيقاع أنه لن يُفقد، أو عندما يخسر بعض المضاربين و رجال الأعمال، أو يفشل بعض الفنانين في مجال عملهم، يرون حياتهم قد صارت بلا معنى، فيكون الحل عند بعضهم في الانتحار، بينما قد يتعرض آخرون لانهيار عصبي، أو إصابة بجلطة دماغية، أو ذبحة صدرية، أو نوبة قلبية، نتاج صدمة لم يكن هناك صمام أمان داخل البنية النفسية لهؤلاء لمواجهتها، مادام نمط شخصيتهم قد بُني على أساس مُسَلمة وجود مستمر لظروف موضوعية ملائمة إن لم نقل مثالية إلى حد ما. صحيح أنهم يملكون معلومة حول حتمية الفراق أو إمكانية الإفلاس و الفشل، لكنها تظل مجرد قشرة خارجية بلا امتداد نفسي و سلوكي يجسد هذه المعلومة، و يُحَصن صاحبها مما هو قادم حتما أو احتمالا.

الاجتهاد الذاتي في تحصيل السعادة داخل سياق بئيس، لا ينبغي النظر إليه باحتقار و كأنه منحة من القائمين والمساهمين في هذا البؤس الجماعي، بل هو استحقاق بفضل ذات عصامية ورغما عن وضع يعمق نخبوية السعادة

إن الرواقية ليست تنظيرا للكسل و الخمول و الرضا بالأمر الواقع و التسليم، و إنما هي منظور واقعي يَقرن الرغبة بالقدرة، ففي حالة ما إذا انعدمت القدرة فمن الأفضل التخلي عن الرغبة أو تأجيلها. تقف الرواقية على طرف نقيض من ذلك المنظور الذي يذيب الذات في الواقع و يجعلها نتاج صرفا له، حيث تصبح السعادة رهينة بشكل مطلق للشروط الموضوعية فإما أن تتحقق تلك المؤشرات المادية بشكل يراه مقبولا أو تنتفي كل إمكانية للسعادة، ولو للحظات مسروقة. إنه لمن الغريب أن يرى البعض في هذه المجاهدة الذاتية من أجل خلق وضعية سعيدة، بمثابة خيانة و تطبيع مع واقع غير مقبول. بينما الحقيقة أن هذه المجاهدة لا تتعارض إطلاقا مع النقد السياسي و الثقافي للواقع القائم، فهي لا تمنح للذات أرضية للتطبيع بل شرطا للمقاومة والاستمرارية، وكم من ذوات كئيبة بعد حداد مفتوح، ورفض جذري للواقع، استسلمت له، بل و أصبحت أداة من أدوات تبريره وإطالة أمده. لقد خسر في البدء فضيلة السعي نحو السعادة الفردية باسم سعادة المجموع، لكنه في المنتهى باع نفسه وضحى بسعادة المجموع لأجل سعادة وهمية. ونعتها بهذا النعت مرده إلى الاقتران الضروري عند الرواقية بين السعادة و الفضيلة. فإذا انتفى هذا الاقتران كان ذلك أمارة على زيفها.

 

إن الاجتهاد الذاتي في تحصيل السعادة داخل سياق بئيس، لا ينبغي النظر إليه باحتقار و كأنه منحة من القائمين والمساهمين في هذا البؤس الجماعي، بل هو استحقاق بفضل ذات عصامية ورغما عن وضع يعمق نخبوية السعادة. إن ضحكنا ليس شهادة لصالح الوضع القائم، بل شهادة على الرغبة في العيش رغما عن هذا الوضع المميت. فالنكتة السياسية، عملة ذات قيمة بوجهيها: فهي تُضحكنا من جهة، وتعري الواقع من الجهة الأخرى. ولنا في كثير من تجارب الاعتقال و التعذيب السياسي، التي دونت في روايات و مذكرات و تحول بعضها إلى أعمال سينمائية، دليلا على أهمية المنظور الرواقي في التقليل من خسائر الذات، عندما تحيط بالمرء مختلف الخطوب و الكروب، ولا يرى خارج ذاته سوى وضع خارجي نابذ للسعادة بل و للحياة، وكم صادفت في حياتي من أناس ظروفهم بئيسة، و أملهم و عملهم من أجل التغيير كبير، لكن الابتسامة و خفة الدم لا تفارقهم، و أناسا آخرين مستفيدون من الوضع القائم، أو ظروفهم أقل سوءا من سابقيهم، لكنهم متجهمون، دائمو الشكوى، يبذلون جهدهم في البحث عن المشاكل، و لما لا اختراعها من عدم، والتفنن في تأويل الوقائع و الأحداث على أسوء وجه ممكن.

 

وكم ألفينا أناسا داخل تنظيم سياسي أو مدني، يجمعهم الاقتناع نفسه، و النضال والأهداف نفسها، وقد يجمعهم الانتماء الطبقي نفسه، ويناضلون في شروط متشابهة إلى حد بعيد، غير أن سمتهم، و طباعهم متناقضة تناقض الانبساط مع الانقباض. هل يمكن للرواقية أَن تكون حليفا للطغيان؟ تخبرنا مبادئ هذه الفلسفة فضلا عن السير الذاتية لفلاسفتها الرواقيين، بأنهم كانوا خصوما للطغيان، وبيان ذلك أن الطاغية إذا كان يجعل من التخويف و الترهيب سلاحه، فإن شعار الرواقية هو الاستخفاف بالألم واحتقار الموت. فإذا ارتفع ستار الخوف انهار كل نظام كان أساسه الخوف. و مِن الواضح أن كل نظام قمعي لن ينظر بعين الرضا إلى فلسفة تعلم التحكم في انفعالات الخوف من الألم و الموت.

 

أورد عثمان أمين في كتابه عن الفلسفة الرواقية قصة نقلا عن ابيكتيتوس في مقابلاته entretien مضمونها: أن الإمبراطور تيتوس فيسباسيانوس 69/79. أرسل إلى الرواقي بريسكوس يطلي منه عدم الذهاب إلى مجلس الشيوخ وقد كان عضوا فيه . فأجابه : بمقدورك أن تحول دون انتخابي عضوا في مجلس الشيوخ، لكن لا بد لي من الذهاب إلى المجلس ما دمت عضوا فيه.
فقال له: فليكن. لكن اذهب و لا تتكلم.
قال الرواقي: أنا ساكت ما دمت لا تسألني عن شيء.
فقال الإمبراطور: لكن لا بد أن أوجه إليك بعض الأسئلة.
فقال الرواقي: إذن لا بد لي أن أقول ما أراه حقا.
الإمبراطور: إذا تكلمت بما تريد أمرت بقتلك أو نفيك.
الرواقي: ومتى قلت لك إني من الخالدين؟ أنت تؤدي مهمتك و أنا أؤدي مهمتي. مهمتك قتل الناس أو نفيهم، ومهمتي أن أموت دون وجل، و أن أذهب إلى المنفى من غير جزع أو ابتئاس. ص 171.
وعلى هذا المنوال نلفي قصصا متعددة لمعاناة الفلاسفة الرواقيين مع بعض أباطرة زمانهم ممن عرفوا بالطغيان.
في التدوينة المقبلة سأكمل الجواب عن أوجه الاختلاف بين هذه الفلسفة و تلك الصرعة المسماة في زماننا هذا بالتنمية الذاتية، وعن أوجه قصور هذه الفلسفة في تقديم مقاربة متكاملة لإشكالية السعادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.