شعار قسم مدونات

توبة شاعر حديث

blogs الكتابة

عزيزتي، أتوسّط بمخاطبتك إلى آذان أخرى. ترهبني الكثرة. ترهبني العيون الكثيرة. يرتدّ إليّ صدى صوتي كالدويّ العالي. أحبّ الكلام همساً، من فم إلى أذن، في غرفة تستحليها شمس العصر من وراء ستائر تحترف مجاز الظل والضوء. أياً يكن، فلتستمع إليّ الآذان الكثيرة، ولكن بوساطة اسمك. أهمس في كلّ أذن على حدة. هكذا أحبّهم وأعرفهم: قراءً لا جمهوراً.

 

"كنت شاعراً ثمّ تاب الله عليّ"، هكذا قال الصوفيّ العتيق، شقيق البلخي. تعرفين أنّ شعراء الأمس ليسوا كشعراء اليوم، وتوباتهم ليست واحدة. تاب الشاعر العباسيّ عن شعر يستحلي الفخار ويدكّ شرف أسلاف خصومه، عن شعر يتكسّب به المترزّقون على أبواب السلاطين، عن شعرٍ –ربما- أحلاه أكذبه. شعرنا الحديث تاب عن هذا أصلاً (تاب لله أو لغيره، هذا بحث آخر)، ولكنّه تورّط في مذامّ أخرى، وارتكب من العصيان ما لا يُستهان به.

 

قلتُ لكِ في رسالة سابقة أننا معشر الشعراء نعني أنفسنا حين نتحدّث عن الشعر والشعراء بعبارات عامّة: نقصّ خبرتنا الشخصيّة متعكّزين على قصص غيرنا. ولذلك أرجوكِ ألا تطعني تعميماتي بنصال الاستثناءات الكثيرة، لا تستعجلي عليّ بالـ "لكن"، فكثيرة هي الأفكار التي لا تصل إلى مراميها قبل أن تقسو قليلاً على صاحبها وأصحابه. بعد ذلك، إن وجدت في نفسك صدقَ ما أقوله فخذيه، وإلا فاعتبريه حكاية شخصيّة، وإن كنتُ أعرف –لمشاهدات كثيرة- أنّ الخلاصات الأشدّ خصوصيّة كثيراً ما تكون قابلة للتعميم كما لم نتخيّل.

 

أسأل نفسي وأجيب: ماذا يريد الشعر؟ وماذا يرى الشاعر في نفسه؟

شاعر اليوم شاعر غرفة، لا شاعر منبر، عالمُه هو التفاصيل الصغيرة، لا النصب والأضرحة وخنادق الجماجم، إنّه في هامش ما من دفتر الحياة. في غرفة المراقبة هذا، يتناوب الظلّ الداخليّ والشمس الخارجيّة على غزل نسيج لا هو يقول ولا هو لا يقول. تمادى الشاعر يوماً فقال: علي أن أخترع عالماً لم يُسكن، عالماً من اللغة، عالماً من تهاويم الكلمات وجرسها، عالماً لا يصوّر العالم وأحواله، بل يخترعها؛ فلنقلب المعادلة: لن تدور أناي في فلك الموجودات، سأديرها كلّها في لعبتي اللغويّة.

كانت شخصيّة الشاعر القديم حاضرةً دوماً في شعره، فهو لا يصف العالم الخارجيّ بمعزل عن نفسه؛ وحتى لو وصف ناقته بعشرين بيتاً، فإنّ هذا الوصف وصفه هو في نهاية المطاف

أتفهمين ما أقوله؟ إن كنت من أهل هذا الشعر، فأنت حتماً تفهمين، فالشعر الحديث تجربة جماليّة ونفسيّة؛ وككل تجربة يفهمه من ذاقه ويجهله من لم. ولكنّني اليوم، لن أخاطبك بلذيذ "الجماليّ"، لن أغرقك بالفتنة اللغويّة، ولن أفتح أبواب الاستعارات على مصاريعها لأشدّ ذائقتك إلى تجربة الشعر هذه، بل أريد لك –وللقراء من ورائك- أن يفتحوا عيونهم وعقولهم على آخرها، وأن يستووا على أرائك الحُكْم، ناظرين بعين التمحيص إلى ما يفعله الشعراء في غرفهم شبه الظليلة شبه المشمسة.

 

يقول الشاعر أنّ "أناه" ليست "أناه" فعلاً. إنّه يلبس قناع الشاعر ويصبح ذاتاً أخرى، ذاتاً لها الحقّ في ادّعاء ما ليس لها، لها الحقّ في وصف أحوال وجوديّة ونفسيّة لا تسكن شخص الشاعر، ذي اللحم والدم والعواطف والتقلّبات والضعف، إلخ. إنّه يريد خلق "صورةٍ" و"مثالٍ" ما، مستقلّين عن نفسه. لاحظي أنّ هذه الحيلة ممسوسة بالكذب، وهو كذب يصدّقه الشاعر نفسه بعد حين، فيعتاش على صورة ما يكتبه، وتختلط في وهمه ذاته الواقعيّة بذاته الشعريّة. يعتقد الشاعر أنّه بذلك يوسّع حدود أناه، أنّه يستضيف العالم والإنسانيّة في رحلات تقمّصه ما ليس له؛ ولكنّ الكذبة تكبر شيئاً فشيئاً، فيقول أولاً ما لا يسكنه، ثمّ إنّه لا يسكن ما يقوله. يتورّط صاحبنا في وهمه، فتقمّص النبل والسعة والعمق يُكسبه رضا أعمق مما تفعله حقائقه النفسيّة الواقعيّة. تصبح العودة إلى الذات الواقعيّة الضيقة مؤلمة. يتفادى ذلك بإنكار مضاعف وبنرجسيّة طاغية. أوه، لو تعلمين كيف يُنهي كثيرٌ من الشعراء حيواتهم بذواتٍ متضخّمة و"إيجوهات" أكبر من العالم، تظلّ مجروحة بأنّها لم تلق الاعتراف اللازم والمستحقّ لها. لقد كبرت الكذبة عن مقاس الشاعر وابتلعته بدلاً من أن يبتلعها.

 

لا تقف المشكلة النفسيّة للـ "أنا" هنا، بل تستقرّ في نقطة أعمق: في مركزيّة "الناظر" في "المنظور إليه" وأولويّته عليه. ليست المسألة في ما ترى، بل في كيف تراه، كيف ينطبع في ذاتك، ما يُحدثه داخلها من انفعال: بؤرة التركيز هي "الرؤية" لا ما تراه. إن كنتِ ذكيّة، فستدركين أنني سأخوض حرباً صعبة ضدّ كلّ مشروع الذات الحديثة. وإذا كانت فكرة كانط مألوفةً لديك فستفهمين المعادل الفلسفيّ لهذه الفكرة الشعريّة، وستعرفين لماذا كان روسو هو الأب الروحيّ لكانط والملهم الحقيقيّ له، وستفهمين وجه الصلة الوثيقة بين كانط والحركة الرومانسيّة وما تضمره من مركزيّة للذت وشعورها في وجه العالم الذي بدأ يفقد سحره.

 

كانت شخصيّة الشاعر القديم حاضرةً دوماً في شعره، فهو لا يصف العالم الخارجيّ بمعزل عن نفسه؛ وحتى لو وصف ناقته بعشرين بيتاً، فإنّ هذا الوصف وصفه هو في نهاية المطاف. ولكنّ الفارق بين الشاعرين أنّ حضور الشاعر القديم حضور شخص يعيش العالم وفق شروطه، إنّه واحد من كثيرين، وليس "الواحد" بـأل التعريف. إنّه يحبّ ويكره ويغضب ويأسى، وقد يرى في لحظة الشجاعة أنّه أشجع الناس، وفي لحظة الحبّ أن أقتل الناس بمحبوبه، ولكنّ الفارق بينه وبين الآخرين (غير الشعراء أو الغوييم) فارقٌ في الدرجة لا في النوع. الأهمّ من ذلك، أنّه جزء من تقليدٍ للحب وتقليد للشجاعة، يستعملهما ويطوّر عليهما، ولكنّه لا يستأنف الكلام من بدء أقصى، إنّه ينافس في الحبّ مجنون ليلى وفي التهتّك امرئ القيس وفي الشجاعة عنترة أو غيره؛ أي إنّه ليس المؤلّف الوحيد. والعالمُ الخارجيّ له ثقلٌ حقيقيّ وواقعيّ: إنّه يكتب عن الأمكنة بأسمائها، والرجال والنساء بأعيانهم، إنّه يحكي قصّته التي عاشها، وهو جزء لصيق بمجتمعه وقيمه، منفصُل عنهم في وظيفته، لا في موقع وجوده النفسيّ والاجتماعي. إنّه أبعد ما يكون عن المراقب المنعزل في غرفته، أو عمن ينسج فانتازيا عشقيّة لم يعشها، إنّه لا يكتب عن رقصة لم يرقصها. إنّه أيضاً لا يكتب عن مشاعر لا يعيشها الآخرون، ولا يحاول أن يغوض في نفسه باحثاً عن جوهر الفرادة الذاتيّة، بل يريد أن يعبّر بلسان الآخرين عما يعيشونه كما عاشه هو: إنّه لسانٌ لهم، لا لسان عليهم. وعلى قصيدته أن تكتب عن القصة الكبرى، عن الشعور الإنساني المشترك، لا أن يبحث عن صورة هامشيّة وأن يخترع حالةً لم يُنتبه إلى وجودها قبلاً.

ثمّة بُعْدٌ عصبيّ في الأمر: "ما يستحقّ الحياة" في أعصاب الشاعر هو "أوّل الحبّ" دون أوسطه وآخره. إنّه حقاً ما يستطيع الشعراء أن يكتبوا عنه، ذلك المختلف المتوهّج المثير المسكون بالمجاز الذي لم يتكشّف

كنتُ أتنقّل بين غرفتين: غرفة الشمس والظلّ هذه، وغرفة معتمة بالكليّة، حيث تقطع القصيدة كلّ علائقها بـ "المنظور إليه" وتختلي بـ "الرؤية" والأدوات: أي باللغة والحساسيّة الذاتيّة التي تنسجها. مستعيناً بقول ملارميه "القصيدة مجموعة من الكلمات، وليست مجموعة من الأفكار"، كنتُ أطمعُ بقصيدة لا تُشير إلى شيء خارجها، ولكنّها تخلق لذعة من داخلها، توفّر تلك الدهشة الخدرانة التي تترك الفم نصف مفتوح، إثر عمليّة محسوبة من تنائي الكلمات وإيحاءاتها ثمّ تدانيها، من تفكّك الموسيقى وتراخي حبالها ثمّ شدّها في لحظة ذروة إلى عبارة تزلزل بنيان كلّ ما سبق! لو قرأتِ قصائدي بعيني لفهمتِ ذلك. أوه، هكذا بات قدر الشعراء ألا يُفهموا، ولم يعد للنقاد حكمٌ على جودة الشعر، بل تأمّل في أدواته ومنطلقات قصيدته، فالشاعر الحديث حقاً لم يعد يستجيب لمعيار بلاغيّ من الخارج، بل يصوغ معياره بنفسه كما تشاء ذائقته الشاردة ثمّ يستجيب له. كنتُ أطمع بقصيدة خالصة، لا مدلولَ لها إلى الجرْس. وهذه عادة الشعراء اليوم أن يطمعوا بما يستحيل نواله.

 

"الشعر الصافي"، "القصيدة الكاملة"، تسمعين ذلك كثيراً على ألسنتهم. يقولون: سنحاول جهدنا ونسعى سعي الحافي اللاهث، ونعلم يقيناً أننا لن نصل، ولكنّ عزاءنا أن نقترب، سنضحي بأرواحنا في سبيل هذا السعي وليس لنا إلا شرف المحاولة. أوه، ما هذه التراجيديا التي يشتهونها؟ قفي معي لحظة وفكري: أليس هذا هو عينه سعي المؤمنين السالكين إلى الله! أن يحاولوا ولا يصلوا، وأن يقدّموا كلّ ما لهم قرباناً من أجلٍ شميم أو برق إلهيّ. لنسأل السؤال الجدّي: أيستحقّ الشعر كلّ ذلك؟ من أين يكتسب كلّ هذه القيمة في نفوس الشعراء؟ يختار الشاعر –قصداً أو غفلةً- أن يتعس في سبيل الشعر، إنّه يعلمُ أنّ الحياة الواقعيّة خصيمة للقصيدة، عليه أن يدفن حياته في التراب لتنبت القصيدة، ولكي "يُدخل النهر في الشعر، لا بدّ أن يخسر النهر، ولكي يدخل الحبّ عليه أن يفقد المرأة المشتهاة"[1]. كثيراً ما تنتهي فصول العشق عند أصدقائي الأكثر شعريّة قصائدَ لا تحيا، لأنّهم – في أغوار أنفسهم- لا يريدون للقصص أن تنجح؛ الفشل أكثر شعريّة من النجاح والخسارة أجمل في عين الشاعر من الفوز، يالها من سوداويّة رهيبة!

 

ثمّة بُعْدٌ عصبيّ في الأمر: "ما يستحقّ الحياة" في أعصاب الشاعر هو "أوّل الحبّ" دون أوسطه وآخره. إنّه حقاً ما يستطيع الشعراء أن يكتبوا عنه، ذلك المختلف المتوهّج المثير المسكون بالمجاز الذي لم يتكشّف، ولكن ما الذي يحدث عندما يتكشّف؟ يفقدون الشغف، يفقدون القدرة على الكتابة عنه. حين تسألهم، وما المشكلة في أن نفقد القدرة على الكتابة؟ أليس الهدف هو أن نعيش بسعادة، بمعنى، بأخلاقيّة؛ لا تبدو الإجابة مقنعة لهم، فقد اختاروا أن يعيشوا ليكتبوا، لا العكس؛ على حياتهم أن تخدم موضوعات الكتابة المشحونة بهذا المزاج السوداوي، يربون في أنفسهم حبّ الخسارة والفشل. وقرباناً إثر قربان يسكبون دلاء الحياة على باب الشعر.

 

لقد اكتشفتُ في غربتي البعيدة أنّني أشتاق إلى رائحة النوم الخامل على جسد زوجتي، الفائح في زفيرها. أعمق من روائح العطور ومعاجين الأسنان في الذاكرة، هذه الرئحة –الكريهة بالمعايير الجماليّة – تخصّني وتخصّ ألفتي المديدة معها. الورود يا عزيزتي تفوح بالعطر في المواسم ثمّ تذبل. الجذور هي التي تبقى. علينا أن نعتاد على حبّ الجذع بخشونته وبقائه. ليست لذّةً، ولكنّها سعادة عميقة، سعادة عليك أن تبذل جهداً ما لتنالها، هذه طينة الحياة الطيبة. والشعراء – وسامحوني يا أصدقائي، وسامحيني يا أناي القديمة – أنانيّون، لا يرون إلا أنفسهم التي تشعر بجدارةٍ تفوق حقيقتها، لا يرون الآخرين إلا كلمات تصلح لتسكن قصائدهم، فإن ذبلت فتنتهم، التفتوا إلى غصن آخر.

 

الشاعر هو الخاسر الأوّل في هذه المعادلة، ولكنّ الخاسرين قد يكثرون حين يرى الشاعر بأنّه مستثنى –لسبب غامض- من المعايير التي تنطبق على بقيّة البشر، حين يشعر بأنّ كونَه جنساً خاصّاً من البشر ذا حساسيّة عالية ومزاج منفرد عن بقية الخلق، يُبيح له الإفلات من الأحكام الأخلاقيّة المعهودة. يعجز صاحبنا الذي نذر نفسه للشعر عن الالتزام لامرأة أحبّها، أو لابنةً أنجبها. يشيح نظره ويولّي، ويكتب قصيدة عن الضحايا البعيدين والعسل الخدران على شفة لم يذقها.

أريد لهم أن يتذكّروا ما قبل الشعر وما قبل الحياة: البشريّ الضعيف التائق بعاديّاته: بلحمه الصاهل ومخاوفه البسيطة؛ أن يتذكروا الله (وليس "الله" الشعريّ)، المستودع الوحيد للمعان

قديماً قالت أمّنا عائشة: "الشعر كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح". فظيعة هذه العبارة، كم هي مستفزّة للشعراء. يقولون: لا، الشعر ليس كبقيّة الكلام، إنّه إلهام خاص، رؤية صافية، تعبيرٌ رفيع عن وجود لا يناله الآخرون، إنّه يمتلك قيمة لا يمتلكها غيره من أجناس الكلام. لقد سبقتك عائشة يا عبد الله الغذامي، فالشعر يُحاكم بذات المعايير، بمعايير الصدق والأخلاقيّة والنفع، ولا يستقلّ بشأنه العالي عن شؤون الناس، ولا يحقّ له أن يغوي بجماليّته ثمّ يُغفر له.

 

ألا يلحظ الشعراء أنّ الشعر بات فنّاً نخبويّاً، يتبادله الشعراء مع جمهور لا يكاد يتجاوز عددهم. هذه ليست مأساةً علينا احتمالها والصبر عليها في سبيل "الشعر" الذي نمنحه قيمة لا أعرف مصدرها. هذه نتيجة لهذا المنزع الشعري الحديث، الذي ترك لسان الناس المشترك –بموسيقاه وإيقاعيّته أيضاً- وانفرد بالخصوصيّة، التي لا تريد حمل قضايا الناس ولا إمتاعهم ولا التعبير عن ما يرونه ولا يعرفون كيف يحكوه، ليقول لهم كيف يرى هذا الشاعرُ الفرد العالمَ، وما الاستعارت التي يحبّها ومن أين يستوحيها. لا تعتب أيها الشاعر إن قال لك الناس: ومن أنت حتى نهتم بدهاليزك المعتمة؟ ما الذي يجبرنا على التجوّل في شوارع لا تشبهنا؟ ماذا سنجني إلى الإعجاب بك، ثمّ عدم فهمك!

 

لا تعتقدوا أنّني أقول هذا الكلام سهلاً، أو أنني أرميه جزافاً، إنني أقطعه من لحمي؛ إنني أبهدل سنوات من عمري أمضيتها في صقل مجازاتي وحفر دهاليزي وتأهيل متاهاتي؛ إنني أخون الليالي الطويلة من الكتابة اليوميّة بعد أن خانتني ألف مرّة؛ إنني أستيقظ! تعالوا لنتحدّث بصراحة أكبر: لماذا نمنح الشعر صفات الألوهية؟ لنفكّر في هذا الصنم الذي مجدّناه: هل ينفع أم يضرّ؟ وهل يغني عنا من الله شيئاً؟ ما عزاؤه الذي نضحّي بكلّ شيء في سبيله؟ وماذا سينفعنا المجد –إن نلناه- سوى ضُمم من الكلام المُبجِّل، تُلقى –كعادة المسيحيين- كباقات الورد على القبور. تعرفين يا عزيزتي، جلّ الشعراء يجنون هذا المجد بعد موتهم؛ مثيرةٌ فكرة المبدع المظلوم السابق لزمانه، الذي لم يُعط ما يستحقّ إلا بعد أن رحل؛ وكلّما كان رحيله مأساويّاً، كان هذا أدعى لمنحه مكانةً أرفع! كلّ الكلام الحلو يُقال في التأبين، أما المعاصرة فهي مدعاة للتحاسد والتنافس والنكير. محزنٌ هذا، لا أريده لنفسي ولا لأصحابي.

 

أريد لهم أن يتذكّروا ما قبل الشعر وما قبل الحياة: البشريّ الضعيف التائق بعاديّاته: بلحمه الصاهل ومخاوفه البسيطة؛ أن يتذكروا الله (وليس "الله" الشعريّ)، المستودع الوحيد للمعاني، الذي تجتمع عنده خصومات الأخلاق والجمال والحقيقة، وتنكسر في بحره مجاديف الأنا المكابِرة، فلا تتكلّم إلا بلسان قلبها، ولا تقصّ إلا بما خبرته من حقائق، ولا تقبل عنده أن تقول ما لم تفعل أو ألا تفعل ما تقول؛ وأن يتذكّروا الآخرين، الذين يشبهوننا بلا فرق، ونشبههم بلا فرق، سوى من لغة لعوب لها أن تكون جسراً أو سوراً.

لكلٍّ معبودُه، فاختاروا معبودكم!

==========================================

[1]  "كان لا بدّ كي يُدخل (النهر) في الشعر أن يفقد النهر / لا بدّ أيضاً لكيّ يدخل (الحبّ) أن يفقد المرأة المشتهاة / و(الحلمَ) أن يفقد الغفوة المطمئنة / و(البيتَ) أن يفقد العائلة // ومن حيث لم ينتبه، كان يبهجه أن يخون المسمّى لكي يربح الاسم أو أن يرى في الكتابة ما لا يرى في تفجّر مجرى الحياة الحقيقيّ، أو أن يقايض بالمفردات السقيمة فردوس أيامه الزائلة// هكذا راح يحصي محطات تلك الحياة التي خانها بالقصائد، حتى إذا أصبح العمر مقبرة من حروف، تراءى له الموت في زيّ "أعماله الكاملة". شوقي بزيع

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.