شعار قسم مدونات

الفنون في اليمن.. نعاس أو تكرار

مع متابعة بانغماس شديد وبحث متتابع هذه الفترة عن جميع أشكال الفنون ومجالاتها، أبحث عن إشكاليّة نعاس الفن اليمني الذي يتهاوى بأيدي "الحرفيين" والمهرة الذي لا نستطيع أن نطلق عليهم لفظ "فنانين".

 

فالفرق كبير ومجرِّي بينهما، أقصد أن ما نحصل عليه اليوم من إنتاج "فنّي" في اليمن لا يتعدى أن يكون مجرّد نقل ماهر لأشكال فنون مختلفة، فالفنّ كإنتاج يجب أن يكون إبداعيًا جديدًا وإضافة لما قبله، ليكون بذلك المبدع فنّانًا. أما في تكرار أشكال الأعمال والإبداعات السابقة فهي أشبه بمصنع لتكرار ذات السلعة الجميلة، بجمالها الذي لم يخلقه تكرير صنعها بل إبداع نسختها الأولى لأول مرة. فالحرفي يصنع أشكالًا جميلة، بدقة متناهية، لكنه لم يخلق هذا الإبداع بل تعلّم المهارة، وهذا هو الفرق بين الحرفي والفنّان، الثاني يخلق الإبداع بمهارة، والأوّل يتعلّم المهارة لنقل الإبداع.

 

سنتحدث هنا كيف يكون الفن اليمني اليوم ناعسًا ومكررًا، بأغلب أشكاله، نسخ جميلة كثيرة ومكررة، لكنها فقيرة الإبهار ومعدومة الإبداع والتجديد، فالأغنية اليمنية على سبيل المثال اليوم هي نسخة طبق الأصل من إبداع اُبتدع قبل مئات السنين، ثلاثمئة سنة على أقل تقدير هو عمر أغنية اليوم بشكلها، الشكل الواحد الذي يعاد ويكرر بنفس الهيئة، هذا إن تجاوز الكلمات واللحن ذاتهما. وإن تحدثنا عن شكل أشبه بالتغيير، فهي تجارب وطفرات شكليّة لحظيّة حدثت آخرها في القرن الماضي في محاولة لنقل الأغنية اليمنية إلى مرحلة جديدة، كتب لها الفشل، لأنها ببساطة كانت نتاج نسخ مماطل للأغنية العربية الأخرى من الأقطار الأخرى، ولم تتغير عنها، وتخصصت بيمنيتها فقط، بالكلمات معنىً واللهجة لفظًا.

 

من هذه الطفرات والتجارب التي ظهرت في اليمن نأخذ كمثال أعمال أحمد بن أحمد قاسم مطرب عدن الأوّل وموسيقار اليمن الكبير، الذي عاد من القاهرة يجر أسلوب روّاد التطوير فيها من الموسيقارين محمد عبدالوهّاب وفريد الأطرش، الذي نراهما يسبحان بشكل جليّ في أعمال الراحل أحمد قاسم، هو وغيره من المشبعين بهذا النسخ أسموه تأثيرًا، ولكن للمتفحص في شكل التأثير يعرف أن للتأثير طريقًا آخر يكون في البدايات عادة، ويأخذ به الفنّان شكلًا إبداعيًا مختلفًا تمامًا بعده عمّن تأثر بهم، ولا نجد ذلك في أعمال أحمد قاسم مثلًا، فلم يخلق للأغنية اليمنية ولا العدنية بصورة خاصّة شكلها "الآخر" الجديد الذي نبحث عنه.

في مثال آخر، فتجارب علي الآنسي في تحديث الأغنية اليمنيّة الصنعانيّة، لم تتجاوز إشباعها بالموسيقى، بإدخال تخت عربي متكامل في أعماله التي سجلّها في بيروت في الستينيات، وبهذا أخرج أغنياته الصنعانيّة من قالب العود والإيقاع إلى عالم الموسيقى الغنية والمشبعة الموجود أصلًا، ومحاولة يمكننا تسميتها بـ"اليمننة" لشكل الموسيقى العربية المعروف، سنجدها في أغلب محاولات التطوير في مجالات الفنون، وسنتحدث عنها لاحقًا.

 

لا يتغيّر الحال كثيرًا بالنسبة لفناني اليمن الكبار الأخرين، مثل محمد مرشد ناجي وأيّوب طارش ومحمد سعد عبد الله وأبو بكر سالم مثلًا، فهم كلما وجدوا فرصة للاستغناء عن العود والإيقاع ومشاركة تخت موسيقي متكامل أخذوا الفرصة على سبيل "التجديد" وإدخال الأغنية اليمنية لعالم موسيقى موجود فعلًا، ويتخذ سبيله إلى ما سميناها "يمننة" الفن.

 

أما عن مجالات الفنون الأخرى فنجد الفن التشكيلي الحديث في اليمن قد بدأ بشكل ناضج في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وسأحصر حديثي في الفن التشكيلي الحديث المعروف بعيدًا عن الزخارف والفنون التشكيلية القديمة، لأننا نتحدث عن حالة التطوير في الفنّ ولا نتحدث عن تراث فنّي، وعن أعمال "روّاد" الفن التشكيلي في اليمن لنعرف ربما طريقًا لمعذرته في دخوله متأخرًا جدًا إلى اليمن.

 

وعلى سبيل المثال هاشم علي رائد الفنّ التشكيلي في اليمن، بدأ مرحلة فنّه الناضجة الحقيقيّة بداية السبعينيات في تعز، وفي تحليل أعماله نجد هاشم علي يستنسخ بشكل أو بآخر شكل وهيئة الأعمال العالمية أبرزها أعمال بابلو بيكاسو، الفنّان العالمي، وسيلاحظ القارئ المستبصر لأعماله بأنه كان يعمل فقط على "يمننة" هذه المدرسة الإبداعية، في محاولة لخلق شكل جديد لها، وبالتأكيد لن يضفي إلباس هذا الشكل الفنّي بقناع يمني أي شيء غير أنه استخدمه في تعبير خاص به، مرر معانيه من خلاله، ولا يعيب هذا الأسلوب "الناسخ" في حرفية ومهارة هاشم علي أو غيره، بل يراد بذكره الإشارة إلى الركود الكبير والنوم العميق الذي يخوضه الرسّام اليمني في مسألة ابتداع الفنّ، وخلق الجديد.

ليس هاشم علي وحده، فروّاد رافقوه ذات الفترة التي ظهر فيها، لم يسعوا لشكل جديد بقدر ما سعوا إلى يمننة الفنّ، تعبيرات تجريدية أو تكعيبية أو أعمال كلاسيكية بحتة لها شكل يمني، راعية وقرى يمنية أو مناظر لمدن يمنية كلّها في قالب فنون معروفة ومستهلكة بشكل كبير، ولا يعرف الفن التشكيلي إبداعًا بمواضيعه الجديدة كما فعلوا، بل بشكله الجديد، وأسلوبه في نقل المعنى أيًا كان، يمني أو عالمي، فالمعنى مجرد حشوة للغة أسمى هي الأسلوب والشكل، وتغيير الحشوة لا يعني تجديدًا أو تطويرًا، وإلى اليوم، يعد الكثير من الرسّامين اليمنيين مجرد ناقلين، مهرة وحرفيين، يقلّدون بشكل مكرر، دون جرأة.

 

سيطول الحديث كثيرًا إذا خضنا جميع مجالات الفنون، وشكلها الناعس في اليمن، منها السينما شبه الميتة في اليمن، التي لا نجد أمثلة غنية لمناقشتها، أو حتى الأعمال التلفزيونية أو المسرحية، فجميعها يحتضر، ولكنا نعرف من شكل الفن السماعي والبصري في الأغنية والفن التشكيلي في اليمن أن هذه الفنون لا تجد الجرأة لخوض الإبداع الحقيقي. فالإبداع يحتاج جرأة كبيرة، وقاعدة معرفية ضخمة؛ لخلق الجديد، وهذا ما يشح في الوسط الفنّي اليمني، فالفن في اليمن فطري أكثر من أن يكون مبنيًا على أسس فنيّة يسير عليها الفنّ الحديث بكل تسارع خطواته الجديدة.

 

لابد من إعادة صياغة مفهوم الفنّ في الأذهان الفقيرة له عملًا للفنّ، يعني على الأقل تعديله نظريًّا، لأن ما نشاهده من بعض "الحرفيين" مجرد مهارة وليس فنًّا حقيقيًا، ومع ذلك يشاد به بصفات الفنّ، والفنّان الحقيقي لا أحد ينظر لأعماله بدعوى أنها "غير مفهومة" للعوام، هذا المشهد يذكرنا بمعاناة الفنّ الحقيقي عندما كان الفنّ محصورًا في طبقات معينة، وكانت هي من تتمسك بحق وضع "قواعده"، وحينها فقط عرضت أعمال سيزان ورينوار ومونييه وإدجار ديجاس وغيرهم ممن نعتبرهم اليوم روّاد الانطباعية، عرضت أعمالهم في معارض "للضحك" أسمتها سلطة الفنّ آنذاك بمعارض الفنّ المزيف، وفتحت للعامة ببلاش كي يملؤوها بالسخرية!

 

وهذه كذلك مخارج تأطير الفنّ، ووضع سلطة عليه، وقواعد له، والمشكلة الكبرى سيطرة الحرفيين غير الفنانين عليه، وهذا ما نقابله اليوم هنا بكلّ بجاحة، تقدير الأعمال التي ليس لها علاقة بالفنّ، فقط لأنها صممت بشكل عالي المهارة، بعيدًا عن قيمتها الإبداعية والتجديديّة والفنيّة الحقيقية. إلّا أن الفارق بيننا اليوم وبينهم بالأمس عدم وجود أساس فنّي لدينا نستند عليه في حال تمت نهضة فنيّة حقيقية، مستندة على الإبداع والتجديد المؤهل بقاعدة ثقافية فنيّة غنيّة.

وما يتبّع اليوم كشكل من أشكال التجديد في الفنون في اليمن، في يمننة الفنّ، ليس إلّا تحجيمًا وتمريرًا لمواضيع ومعانٍ من خلال ذلك الفن أيًا كان، ولا يعد بأي تعريف نقدي تطويرًا أو إضافة، فمجرد أن نرى منزلًا صنعانيًا تقليديًا في لوحة تجريديّة لا يعني هذا إضافة للفنّ التجريدي، وعندما نسمع راب بلهجة صنعانيّة لا يعني ذلك أي إضافة أو تجديد في فن الهيب هوب وأغاني الراب، فهذا كلّه مجرّد استخدام لفنون موجودة فعلًا، ولا يعني التجديد ولا يؤدي إلى الريادة بشيء ما.

 

وفي الوقت الذي توجه الفنّ الحديث والإبداعي للعالمية ومخاطبة الإنسان بعيدًا عن مكانه، في أساليبه وأشكاله، جلس الفنّ اليمني "يهمس" إلى نفسه وحيدًا، ينقل العالمية الكبرى ويحجمها ويصغرها بيمننة المواضيع الفنيّة، متخيلًا الإضافة، ولم يخلق بذلك شكلًا جديدًا صارخًا يقرع الفنّ بقوّة، ولا حتى يكلمه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.