شعار قسم مدونات

في الحاجة إلى علم لإدارة الصراعات في الوطن العربي

blogs حرب

إن الوطن العربي من أكثر المناطق التي شهدت حروبا خلال نصف القرن الأخير مقارنة بباقي مناطق العالم، والمفارقة هي قلة الدراسات التي تحاول البحث في الأسباب والتداعيات، وعوامل تعزيز الثقافة الوقائية فيما يخص الحروب الأهلية داخل القطر الواحد، وبين الأقطار العربية.

   

لهذا نحن في أمَس الحاجة في الوطن العربي لدراسات شاملة للصراعات العربية – العربية على المستويين الكلي والجزئي، توفر بيانات تمكن من اتخاذ قرارات عربية سليمة قُطريا وقوميا، وتوضح سبل التهدئة والتسوية والحل، كما من شأن هذه الدراسات أن توفر قاعدة معطيات للأقطار العربية بما خسرته، وتخسره، وستخسره مستقبلا على الصعيدين القُطْري والقومي جراء دخولها في صراعات داخلية وبينية عنيفة، وما ستربحه لو جرى توجيه هذه الموارد نحو وجهة استثمارية تكاملية منتجة.

    

إن بمقدور عملية استنبات المقاربة العلمية للنزاع أن تُمكن من التدخل الاستباقي للحد من استفحال بعض الأزمات وتمددها جغرافيا، ذلك أن بعض النزاعات الأهلية العربية تبدأ في حقيقتها بوصفها تنازعا أهليا داخل القطر العربي الواحد، ونتيجة غياب الإرادة السياسة لحلها، والقدرة على الدخول في مساومات رابحة لكل الأطراف، "يجري الهرب نحو افتعال صراع مع أقطار مجاورة، أو تنتقل بؤرة التوتر عن طريق العدوى. فالأقطار العربية – كما يرى جابر الأنصاري محقا- التي لا تنعم بالسلم الأهلي في داخلها لا تستطيع أن تمارس السلم القومي مع الأشقاء، أو السلم الإقليمي مع الجيران ومن المحال تصور وطن في تنازع مع ذاته يستطيع التعايش بسلام مع غيره".

  

من شأن توطين هذا العلم أن يوفر الاستشارات اللازمة لصانعي القرار السياسي العربي انطلاقا من منظور وحدوي، وخاصة ما تعلق منها بالاستشارات ذات الطابع الوقائي

كما بإمكان هذه المقاربة مساعدة صانعي القرار السياسي على الوصول إلى قناعة – عبر مؤشرات دقيقة تحدد التكلفة الاقتصادية والسياسية والأمنية- مفادها أن استمرار النزاعات الأهلية العربية داخل القطر الواحد وبين الأقطار العربية، هو البيئة الملائمة لاستمرار التدخلات الخارجية، بما يترتب عن ذلك من إضعاف مستمر للقدرات الذاتية على مواجهة التحدي، واستنزاف متواصل للثروات العربية، فإذا كانت هناك مخططات ومؤامرات خارجية – وهو أمر واقع في بعض النزاعات- فإن ذلك لا يعفي من شرط الوعي والإقرار بأن عوامل نجاحه كامنة في شروط داخلية تمكنه من النفاذ، وإن استمرار تعليق الأزمات على العامل الخارجي لن يحل المشكلة بقدر ما سيفاقمها، ومن هنا أهمية علم إدارة النزاعات حيث بإمكانه حث الأطراف المتنازعة على الوعي بأهمية التجاوب الايجابي السريع في حل النزاع أو إدارته على الأقل، حتى لا تفقد سيطرتها على الوضع ويصبح بيد قوى دولية وإقليمية، وفاعلين أهليين يحملون السلاح خارج الدولة مثل داعش، كما هو حال سوريا اليوم وليبيا وإن بدرجة أقل.

  

ومن هنا قد يكون لعلم إدارة النزاعات دور في نقل الحروب الأهلية من حالتها الساخنة إلى وضع بارد كمرحلة أولى، والتقليل عبر أدوات التدخل الإنساني من الآثار الناجمة عن هذه النزاعات الساخنة، ثم العمل على المدى الطويل للخروج من هذا السلم المؤقت للحرب الباردة بين الطوائف، إلى سلام دائم بعد أن يقتنع الفاعلون في الصراع – والعبارة لعزمي بشارة- "أن التوازن الطائفي بين قوى غير ديمقراطية لا يتضمن أي ديمقراطية، وأن هذا الحل لن يكون سوى مرحلة انتقالية نحو تنافس سياسي ديمقراطي بين برامج تجعل منطلقها مبدأ المواطنة الذي يقطع مع فكرة الأغلبية الطائفية ويحل محلها الأغلبية السياسية المتغيرة باستمرار. ومع أن النظام الديمقراطي ليس وحده الحل الكافي لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، لكن لا يمكن تجاهل دوره في تحسين شروط مشاريع التسوية.

  

إن من شأن توطين هذا العلم أن يوفر الاستشارات اللازمة لصانعي القرار السياسي العربي انطلاقا من منظور وحدوي، وخاصة ما تعلق منها بالاستشارات ذات الطابع الوقائي حتى تكون بمثابة إنذار يمكن إن جرى الأخذ بها، أن تجنب الوطن العربي مزيدا من الأزمات، وعلى رأس هذه الاستشارات اليوم توفير قاعدة من المعطيات التي تُظهر على المستوى القطري تكلفة الاستبداد السياسي على: 1 شرعية السلطة، 2 استقرار الدولة، 3 نوعية الثقافة السياسية السائدة فيها، 4 درجة الثقة بين الفاعلين السياسيين، 5 النمو الاقتصادي، 6 درجة التماسك الاجتماعي، 7 صورة السلطة والدولة معا أمام العالم، 8 القدرة على كسب حروب حقيقية في غياب الشرعية والمشروعية. مع التأكيد انطلاقا من تجارب مقارنة، على أن الاستبداد الدموي في بعض البلدان العربية التي عاشت على إيقاع انتفاضات وثورات، لا يشكل علاجا للأسباب التي أدت إلى الفوضى، وإنما هو يكتفي بالتغطية عليها، مما يجعلها مرشحة للانفجار بحدة أكبر.

  

كما من شأن مبحث إدارة النزاع أن يساعدنا على الفصل بين التعددية والنزاع، فإذا كانت التعددية ظاهرة بشرية كونية، فإن مآلها إلى نزاع مدمر، يكاد يكون اليوم حصرا على المنطقة العربية، وكأن بينهما علاقة سببية، وما ذلك لتنوع ديني أو عرقي، وإنما لتسييس مفرط يحول المذهبية إلى طائفية ساخنة تفضي إلى حروب أهلية بدعم من قوى إقليمية منخرطة في تنافس جيوستراتيجي (مثلا إيران والسعودية) كما هو حال سوريا والعراق واليمن اليوم، خاصة بعد ظهور وتمدد داعش مستغلا هذا التنافس، أو حرب أهلية باردة تعيش على إيقاع توازن هش وحساس للمتغيرات الإقليمية كما هو وضع لبنان، أو تفضي إلى انفصال مأساوي كما هو حال السودان.

  

من مظاهر هذا الخلل الخطير اليوم، نظر بعض البلدان العربية إلى تركيا وإيران بوصفهما مصدر خطر يتجاوز في حدته الخطر الإسرائيلي، بل والنظر لهذا الأخير كحليف في معركة المواجهة ضدهما

إن علم إدارة النزاعات إذا ما جرى توظيفه في خدمة القضايا القومية، له أن يبين لنا أن الهدف ليس إنهاء الصراع، وإنما توجيهه وجهة تنافسية تمكن الوطن العربي من أن يكون في موقع تفاوضي قوي، وهذا يقتضي توجيهه نحو التحديات الخارجية الحقيقية عوض بقاءه أداة لتفكيك ما بقي من عناصر الممانعة العربية -إن بقيت- ومن ثم "يكون الصراع مطلوبا بشروطه إذا تعلق الأمر بالتخلص من الاحتلال والسيطرة الأجنبية أو صد محاولات الاختراق الخارجي أو تطوير الوضع نحو الأفضل. وسيكون مرفوضا كما اشرنا عندما يكون مجرد تعبير عن التفكك وفقدان القدرة على التحرك الجماعي من أجل تحقيق الأهداف القومية العامة.

  

وهو القادر على المساهمة عبر معطيات إحصائية وتجارب مقارنة على إعادة التأكيد والدفاع عن الأطروحة الكلاسيكية الوحدوية القائلة باستحالة ضمان أي قطر عربي – وفق المعطيات الراهنة- لأمنه وتنافسية اقتصاده، خارج نطاق مظلة أمن قومي عربي، وسوق عربية مشتركة، حتى لو استخدم إمكاناته استخداما أفضل في زمن التكتلات، على أن يتم إبراز هذه الاستحالة بأدوات علمية بعيدا عن أساليب الدعاية والخطابة والمقاربة التراثية، ما له أن يساعدنا على تصحيح خلل عميق في ترتيب التحالفات والخصومات على المستوى الإقليمي والدولي، ومن مظاهر هذا الخلل الخطير اليوم، نظر بعض البلدان العربية إلى تركيا وإيران بوصفهما مصدر خطر يتجاوز في حدته الخطر الإسرائيلي، بل والنظر لهذا الأخير كحليف في معركة المواجهة ضدهما.

  

وهو العنصر الذي يتكامل مع محورية الوعي بمخاطر تحريك النزعة القومية العربية بطريقة انتهازية ولا نقول برغماتية، صوب خصوم غير أساسيين أو حلفاء محتملين، مع توفير المعطيات التي بإمكانها الحد من المبالغة في تضخيم مخاطر هؤلاء الخصوم الثانويين أو الحلفاء المحتملين، والكشف عن الأبعاد التي تقف وراء هذا التضخيم، ومنها توفير الشرعية للبقاء الأمريكي في المنطقة، باعتباره الدرع الواقي للأمن القومي العربي ضد النزعتين "الفارسية "و"العثمانية الجديدة".

 

دون أن نغفل دوره الأكاديمي في إبراز المخاطر الناجمة عن تدخل الجيش في السياسة، وتحوله – والتعبير لعبد الله بلقزيز- من مؤسسة للأمة إلى أداة في يد النخبة الحاكمة (جيش السلطة)، أو استيلائه على السلطة بشكل مباشر، أو من وراء ستار (سلطة الجيش وتحزبه)، أو تفككه على أساس عصبوي يحوله عمليا إلى ميليشيات (الجيش الأهلي).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.