شعار قسم مدونات

صفقة القرن وانفصاليي جنوب اليمن

blogs اليمن

لم يأت إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي الحكم الذاتي جنوب اليمن (بعدن وجزيرة سقطرى) محض صدفة أو لحسابات خاصّة بالانقلابيين المدعومين من الإمارات العربية المتحدة، فتلك الإمارة أصغر من أن تمثّل رقما في جداول الضرب البسيطة، فما بالك عندما يتعلّق الأمر بمعادلات جيوستراتيجية دوليّة معقّدة، يرتكز محورها الجامع حول هيمنة كيان العدوّ الصهيوني على عموم المنطقة العربيّة برعاية ودعم أمريكي لا متناهي من خلال برنامجه الاستيطاني الكبير المسمّى "صفقة القرن".

    

فما تلك الدويلة إلّا واجهة لعمليّات ميدانيّة تقوم بها إسرائيل في المجال العربي بدءا بمحاصرة قطر التي تدفع بذلك ضريبة تمسّكها بالخطّ التحريري الحر لقناة الجزيرة المساندة لقضايا التحرّر والتحرير بالعالم من جهة، وتمرّدها على التحالف المبرم مع السعوديّة والإمارات وعدّة دول عربيّة أخرى في ما سمّي بقوات "التحالف العربي في اليمن بقيادة السعوديّة" التي تدخّلت عسكريّا باليمن بطلب من الرئيس عبد ربّه منصور هادي في 25 مارس 2015 في عمليّة أطلق عليها اسم "عاصفة الحزم" ضدّ قوّات الحوثي باليمن المسنودة من إيران والمتحالفة مع قوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح عقب الثورة اليمنية التي أطاحت به في 2011.

    

وبالرجوع إلى الخلفيّة الدوليّة التي تسند هذا التحالف العربي نلمس مدى تشابهه -في أوجهه الاستراتيجية- بالحلف العسكري الانجليزي-العربي ضدّ الوجود العثماني بالجزيرة العربيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) والذي مهّد لظهور دولة إسرائيل في فلسطين، وتقسيم المنطقة العربية بين الانجليز والفرنسيين على قاعدة اتفاقية سايكس-بيكو (مايو 1916).

 

ومن خلال سلسلة الأحداث الراهنة بالمنطقة العربيّة والتنافس الشديد بين قوى عالميّة وإقليميّة ناشئة (روسيا، إيران، تركيا) من جهة، وأخرى مهيمنة منذ الحربين العالميتين على المنطقة العربية (الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفاءها الاجقليز والفرنسيين) من جهة أخرى، نتبيّن جملة الأهداف الجيوسياسية المرسومة للمنطقة في علاقة بمشروع صفقة القرن الذي أعدّته دوائر الصهيونيّة العالميّة (شرقا وغربا). ومن بين تلك الأهداف تتّضح لنا معالم المشروع الصهيوني الجديد بالمنطقة في جانبه اللوجستي المتمثّل في وضع اليد على الموانئ الاستراتيجيّة بمضيق باب المندب بخليج عدن بعدما تمّ تأمين الملاحة الحرّة بمضيق تيران الفاصل بين خليج العقبة والبحر الأحمر ووضع الموانئ النفطيّة بخليج سرت بليبيا تحت سيطرة حليفهم العسكري المتقاعد خليفة حفتر، في خطّة تهدف إلى توسيع نفوذها جنوب البحر الأبيض المتوسّط وقطع الطريق أمام أيّ مشروع إقليمي مؤسّس لنهضة عربيّة تنطلق من دول الربيع العربي (تونس وليبيا مثالا).

   

   

ولا يخفى على أحد الأهميّة الاستراتيجيّة لخليج عدن وجزيرة سقطرى في الملاحة الدوليّة بمضيق باب المندب الذي يبقى للسلطات اليمنيّة فيه مع الدول الساحلية المجاورة اليد الطولى للتحكّم فيه كما ينصّ عليه قانون الملاحة الدولي، في هذا المضمار يمكن إدراج إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي باليمن -المدعوم إماراتيّا- الانفصال عن الدولة اليمنية وتأسيس كيان سياسي جنوب اليمن وعاصمته عدن ضمن أجندة صفقة القرن المبرمة بين إسرائيل والسعودية ومصر والإمارات، يكون فيها كيان العدوّ الصهيوني أكبر المستفيدين من هذا التحوّل الجيوسياسي المرسوم بالمنطقة العربية.

   

يأتي هذا الحدث متمّما لما بدأته إسرائيل في ما يتعلّق بمسألة ترسيم الحدود البحريّة بين مصر والسعوديّة والتي تتضمّن تحويل السيادة على جزيرتي تيران و صنافير الواقعتين عند مدخل مضيق العقبة إلى المملكة العربية السعوديّة، تمّ إقرار هذا الاتّفاق بين الملك سلمان والرئيس السيسي رسميّا بعد سلسلة من المباحثات التي تمّت تحت الإشراف والمتابعة المباشرة من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي ناتنياهو منذ بداية سنة 2016 إلى حدود المصادقة عليه بالبرلمان المصري ونشره بالجريدة الرسميّة في 17 أوت (أغسطس) 2017، وللتذكير فإنّ جزيرة تيران كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي في مناسبتين أولاها إبّان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والثانية في حرب 1967، ولم تخرج منها إلّا عقب إبرام اتفاقية كامب ديفيد (1979) في حدود عام 1982 بشروط فرضت فيها إسرائيل تواجد قوات أمميّة، مع تحديد لحجم الوجود العسكري المصري بها ومنع إعمارها بالسكان.

  

وتقضي بنود الاتفاق الذي حرصت إدارة نتنياهو على مناقشته بندا بندا مع الحكومة المصريّة على تخصيص ممرّ للملاحة الدولية الحرّة يتمّ اقتطاعه من الممرّ المائي لمضيق تيران، وتبقى باقي شروط معاهدة كامب ديفيد سارية المفعول على الجزر التي تحوّلت إلى السيادة السعوديّة، ويعتبر هذا مدخل عملي يسعى إليه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للتطبيع مع كيان العدوّ والمرور إلى المشاريع المشتركة المبرمجة مع الإسرائيليين بشبه جزيرة سيناء المصريّة (مشروع "نيوم" على مساحة 26 ألف كيلومتر جنوب سيناء بتكلفة تقدّر بخمسمائة (500) مليار دولار).

  

وحسب بعض المتابعين فإنّ سيطرة إسرائيل على الملاحة البحريّة بالبحر الأحمر ومضايقه يمكّنها من تأمين جزء كبير من التبادل الدولي وربّما يتطوّر الأمر إلى حفر قناة شبيهة بقناة السويس تفتح طريقا بحريّة جديدة تربط ميناء إيلات المطلّ على خليج العقبة بميناء أشدود على ضفاف البحر الأبيض المتوسّط، ويعلم كيان العدوّ جيّدا أنّ مخطّطاته أكبر ممّا يمكن أن تتحمّله دولة تفتقد لعنصرين أساسيين لتأمين ريادتها بالمنطقة العربيّة وهما: العمق الجغرافي لكيانها والوزن الديمغرافي، لذلك نرى إسرائيل حريصة كلّ الحرص على تفكيك المنطقة العربية على قاعدة الأقليّات العرقيّة والدينيّة والطائفيّة، والتشجيع على ظهور كيانات سياسيّة هجينة كالتي تسعى إليها شمال العراق وسوريا من خلال دعمها للانفصاليين الأكراد.

  

وهي كذلك لن تتوانى في تفكيك باقي الدول العربية ذات الثقل الديمغرافي أو الأحجام الجغرافيّة الكبيرة على نفس القاعدة. وسيأتي الدور على مصر والسعوديّة بعدما أطلقت العنان لماكنات التدمير الروسيّة والإيرانيّة بسوريا لتدمير البلد وتهجير ملايين السكّان السنّة من البلاد وتحشيدهم بمخيّمات اللجوء بالشمال السوري وتركيا، كما تعمل حاليّا على الأمر ذاته باستخدام المعول الإماراتي بليبيا.

  

وليس من باب الصدفة تعويل كيان العدوّ على دولة أغلب سكّانها من الأجانب (ما يناهز ثمانين بالمائة)، فهي أكبر المرشّحين لبروز دعوات انفصاليّة على أراضيها في قادم الأيّام كتطوّر منطقي لتغيير التركيبة السكانيّة بالإمارات لصالح الوافدين من شبه الجزيرة الهنديّة، والسؤال المطروح على أنفسنا وعموم العرب اليوم في عصر ما بعد كورونا هل سنصبح نحن يهود التاريخ ونعوي في الصحراء بلا مأوى كما قال الشاعر العراقي مظفّر النوّاب، أم ستستفيق هذه الأمّة من غفوتها وتخرج من ظلمات التبعيّة إلى أنوار السيادة والعزّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.