شعار قسم مدونات

تفاهة المجتمعات الرقمية.. أفول القيم وتكريس المراقبة التجسسية

blogs وسائل التواصل

تعيش المجتمعات الرقمية التي تتزايد بشكل مثير منعطف أفول القيم، لم يعد لهذه المجتمعات أخلاقا يحتكمون إليها، إن افتراضية المكان الرقمي جعلت مرتاديه لا يفكرون في عواقب ما ينشرونه من صور أو منشورات، فالصورة مثلا هي رسالة دوما، وهي رغبة في تدمير الاخرين أحيانا، يصور فيها الفرد نفسه كما يتمنى، لا كما هو فعلا(1)، لقد خلق لنا مجتمع الصورة علاقات هشة مبنية على المصالح والنفاق، لقد أضحت محادثات هذه المجتمعات بنية على ترميز التفاهة –أي جعل التافهين رموزا- والاقتصار على الصور التي تم إعدادها مسبقا وتم اختيار المكان بعناية كبيرة واختيار الإضاءة وتنقيح شوائب الوجه بتلك التطبيقات الإلكترونية التي جنت ثروات كبيرة من التفاهة جراء تقديمها لخدمات مغرية لمرتادي العالم الافتراضي، بعد الإعداد المتكلف في صناعة صورة جميلة لا تعكس واقع هؤلاء يتم تنزيل الصورة الصناعية في العالم الإلكتروني فتحصد الكثير من الإعجاب المصطنع والعبارات الركيكة والمتكررة.

  

إن مجتمع الصورة غالبا ما يستقي الأخبار والمعلومات من المجموعات الإلكترونية التي ليست لها أي مصداقية، فتراه بعد رجعوه من رحلة افتراضية إلى عالمه الحقيقي يحدّث زميله أو أحد أفراد عائلته بتلك الأخبار والمعلومات التي تحمل الكثير من التزييف، والمجتمعات التي لم تنفتح على الرقمية إلا مؤخرا كالمغرب مثلا تعاني تتضاعف المشاكل والأزمات الأخلاقية جراء تعاملهم مع هذا الضيف الجديد، فلم يكن الأنترنيت في المغرب سوى عالم يرتاده الشباب من أجل التخفيف من الرقابة التي يفرضها عليهم المجتمع والتي كانوا يرفضونها، لكن رغم ذلك لم يكن هؤلاء الشباب يتوقعون أنهم بعد عشرين سنة من ارتيادهم لأول مرة الفضاء الافتراضي بكل تفاصيله سيجدون أنفسهم يقابلون في هذا الفضاء الأزرق أو أي فضاء إلكتروني آخر نفس المجتمع الذي كان يفرض عليهم قيما معينة ويرفض استهلاكهم للأنترنيت آنذاك، كان الأنترنت بالنسبة لجيل الخمسينات والستينات والسبعينات بمثابة منطقة غير أخلاقية لا يجب ارتيادها، لكنهم الآن يسبحون في نفس المكان الإلكتروني وأن بعضهم أصبح يتفوق على هؤلاء الشباب في السباحة الإلكترونية، لكنهم يسبحون في ماء عكر ويحاولون التصرف ضد قيمهم التي كانوا يحملونها قبل أن يلجوا إلى هذا العالم، أصبحوا يطمحون إلى الربح بتسويق التفاهة وبفتح بيوتهم وخصوصياتهم نحو الفضاء العام، إنهم يتنافسون في ما لا يصلح للمنافسة.

  

لقد أصبح الفضاء الافتراضي يستبد بالإنسان، فجميع وسائل التواصل الرقمية تتيح للمرء أن يتحدث دون ضوابط، يمارس الإنسان في العالم الافتراضي التجسس على الأخرين واختراقهم والحكم عليهم دون علمٍ بأخلاقهم أو تصرفاتهم أو مؤهلاتهم، إن هؤلاء الجواسيس والكلاميين هم ضحايا العالم الإلكتروني السائل الذي جعلهم يطرحون أراءهم دون معايير أخلاقية، إنهم يراقبون الأخرين دون أن يوافقوا على مراقبة الأخرين لهم، لقد كان الملك (جيجس في الميثولوجيا اليونانية) يريد أن يرى الجميع من حيث لا يراه أحد، وأن يُخفي نفسه عن الأنظار حتى لا يفلت منه أي شيء. ما حلم به جيجس، يقوم به الأن الفضاء الأزرق اليوم (2)، لكنهم رغم ذلك مراقبون من حيث لا يعلمون ففي مجتمعاتنا المُراَقِبَةِ هو؛ أن يغدو المواطنون مُراقَبين ومُراقِبين في الاوان ذاته (3) إننا اليوم نعيش عصر الفراغ والشخصنة المفرطة على حد تعبير الفيلسوف جيل ليبوفتسكي (4).

   undefined

  

ووسائل التواصل الاجتماعي ليست إلا وسائط للتواصل والتعارف، لكنها تحولت إلى أدوات خطيرة في يد أناس تافهين يجلسون في بيوتهم أو في المقاهي ويتوهمون أنهم امتلكوا العالم بأسره، وأن لهم الحق في التعبير دون علم ودون حدود يهاجمون كل من كان أمامهم، وانعدام الرقابة الأخلاقية والقانونية جعلتهم يعتبرون العالم الرقمي بمثابة فضاء يقال فيه كل شيء ويفعل فيه كل شيء، كما أن رواده قلصوا من النقاشات التي كانت تحتاج الكثير من القراءة والمناظرات والكتب الى مجرد أراء سائلة تُطرح دون علم، هؤلاء الكلاميين تراهم ينشرون تعليقاتهم على كل ما يروج في هذا الفضاء الإلكتروني ويطرحون رأيهم في الأشخاص وينبذون الاختلاف ويصنعون من أنفسهم نجوما، حيث ترى البعض منهم قد نال شهادة ما أو مارس مهنة ما فيحول حسابه الإلكتروني إلى صفحة يسوق فيها إلى أرائه المتهافتة ليصنع من نفسه أسطورة افتراضية تجد متابعيه قد فاقوا 200 ألف أو ما يزيد وتجده لا يجيب التعليقات لقد سقط في مرض الشهرة للأسف، إنها في نهاية المطاف الديكتاتورية الرقمية التي جعلت الانسان يبدو عاريا حسب الباحثين مارك دوغان وكريستوف لابي (5).

  

وليجرب أحد الأشخاص الذي كان محترما فيما قبل أن يطرح رأيا مخالفا لمصالح بعض المجتمعات الإلكترونية المصغرة والتي يجمعهم مشترك ما أو معتقد ما أو إيديولوجية معينة، فإن هؤلاء "بزر واحد" قد يحولون الشخص المحترم والمخالف لمصالحهم إلى مادة دسمة للمحادثة والسخرية من طرف أتباع هذه المجتمعات، وتبدأ المعلومات التي تشاركها المجموعات الافتراضية حول هذا الإنسان – الضحية تتطور وتتضخم نحو التزييف والكذب والاستهزاء والسب والشتم أيضا، إنه نظام تافه يشجع على التفاهة وعلى كل ما هو نمطي ويشجع على ميوعة القيم والعلاقات الانسانية، لقد إنهار حق الخصوصية في هذا العالم الرقمي غير المراقب والمراقب في الآن نفسه:

 

من جهة، نحن مراقبون من طرف لوغريتمات حاسوبية تستعملها السلطة من أجل تتبع وتحديد رغبات المجتمع ومن تم خلق سياسات تسيطر أَو تزيد من تلك الرغبات حتى يستمر الاستهلاك المفرط لمنتوجاتهم – أتحدث هنا عن الغرب بالدرجة الأولى )6)– فمَنْ يتحكَّم في فضاء الإمكانات التقنية يُصبح هو سيد العالم(7). من جهة أخرى غير مراقبين، فتصرفات وأراء الانسان في هذا العالم الرقمي – التي تصبح ضارة في بعض الحالات- غير مراقبة من قبل القانون أو الأخلاق لأن هذه الاخيرة أنساق تحاكم الملموس لا الافتراضي.

 

لقد أبرز المفكر والمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري مسألة المراقبة التكنولوجية بوصفها سعيا نحو الخلود أو بحثا عن الإنسان الإلاه الذي يطمح إلى امتلاك الحقيقة المطلقة وإلى تحقيق سلطة تراقب كل شيء عن طريق الثورة العلمية، لقد وسع أفق بحثه عن فرضية "الإنسان الإلاه" في كتابه الذي يحمل نفس العنوان (8)، يحاول أن ينطلق من فرضية أن الإنسان بسبب تفوقه على جميع الكائنات الأخرى قد تغيرت تحدياته وأهدافه من محاربة الأمراض – المجاعات – الحروب الكونية إلى السعي وراء الألوهية – السعادة – الخلود، يتوسّع هراري في وصف انتصار الليبرالية والرأسمالية على كلٍ من الشيوعية والأديان وتوجهها بالعالم نحو ديانة "عبادة الإنسان" وتركيز القيم الليبرالية على تفرده وتفوقه المعرفي؛ لأنها قدمت للإنسان ما يجعله السلطة الأعلى، لكن سيهدم الكاتب فكرة الإنسان الإلاه، سيتحول الإنسان إلى مجرد أرقام وخورزميات مراقب من طرف آلة تتميز بالذكاء الاصطناعي وصعود فكرة البيانات الكبيرة .

   

========================================

(1) نورة محمد فرج، كرنفالية الأقنعة، مجلة الدوحة، العدد 134 ديسمبر 2018، ص. 68.

(2) شارل جيغي، ما حلم به جيجس يقوم به الفيسبوك اليوم !، ترجمة: مروى بن مسعود، مجلة الدوحة، عدد 134، ديسمبر ، 2018، ص. 52.

(3) إنياسو راموني، مخبرون في غير تكلف، ترجمة: معاذ جمرادي، مجلة الدوحة، السنة 11، العدد 133 نوفمبر 2018، ص. 113.

(4) GILLES LIPOVETSKY. L Ère du vide. Essais sur l individualisme contemporain. Gallimard. 1983

(5) Marc Dugain. Christophe Labbé. L homme nu. La dictature invisible du numérique. Plon. 2016.

(6) يمكن مراجعة أبحاث كثيرة كتبت حول علاقة اللوغاريتمات والتكنولوجيا الرقمية بالقانون والضبط الاجتماعي وبتشكلات الدولة الحديثة أعمال أستاذة القانون أنطوانيت روفورا كتابها القانون، الانسان، وسلطة الكبيوتر، وأعمال الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين (سلسلة الانسان الحرام)، وأيضا أعمال الفيلسوف الكبير الذي أثر أيضا في المذكورين سابقا ميشيل فوكو كتابه المراقبة والمعاقبة وكتاب حول السياسة الحيوية.

Antoinette Rouvroy. Human Genes and Neoliberal Governance. A Foucauldian Critique. Routledge-Cavendish. 2008.

Antoinette Rouvroy edit. Law. Human Agency and Autonomic Computing. The Philosophy of Law Meets the Philosophy of Technology. Routledge-Cavendish. 2011.

GIORGIO AGAMBEN. Homo Sacer. Sovereign Power and Bare Life. TRANSLATED BY DANIEL HELLER-ROAZEN. Stanford University Press. 1998.

Michel Foucault. Surveiller et punir. Naissance de la prison. Gallimard. 1975.

(7) أنطوانيت روفروا، من المُراقبة إلى تقييد بيانات الشخص، حوار أجرته مع "مجلة الفلسفة" الفرنسية، ترجمة محمد بوتنبات، مجلة الدوحة، السنة 11، العدد 133 نوفمبر 2018، ص. 19.

(8) Yuval Noah Harari. Homo Deus. Une brève histoire de l avenir. Albin michal. 2017.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.