شعار قسم مدونات

على هامش كورونا.. أي عولمة نريد؟

blogs كورونا

الفكر لا يمل ولا يستريح. بينما يبطش وباء كورونا بالعالم، تعكف فرقٌ من الباحثين والخبراء في شتى المجالات العلمية على دراسة سؤال "اليوم التالي"، أي سؤال ما بعد انحسار الأزمة الصحية العالمية. هذا الصنف من المفكرين يقطع جزاما بأن الفيروس، مهما طال مكوثه بيننا، سيرحل يوما، مخلفا وراءه أزمة وجودية. فالثابت الكوروني، إن صح التعبير، جعل من كل أنظمتنا السياسية والاقتصادية ومسلماتنا المجتمعية والثقافية، لا سيما تلك منها التي تستهدف تأطير "الآخر" ومعاداته، قوالبَ متحوّلة، آيلة إلى المساءلة والنقد والإسقاط التام، إن لزم، من حسابات التقدم الحضاري.

حسب متابعتي، تتجلى هذه الأزمة الوجودية راهنا في جدلية العولمة الدائرة بين فريقين من المفكرين. يحاجج الفريق الأول بأن كورونا فرصة ذهبية لإعادة تجديد النيوليبرالية، أي النظام الاقتصادي العالمي القائم على رأسمالية السوق الحرة -السوق الذي يدير نفسه بنفسه- والذي نشأ في سبعينيات القرن الماضي ولا يزال، رغم اجتهادات الكثيرين، حيّا يُرزَق. فمن وجهة نظر هذا الفريق، النيوليبرالية، التي تتلاءم مع الديمقراطية التمثيلية كما نَظَّرَ لها ميشال فوكوياما عام ١٩٨٩، قد أرست دعائمَ استقرارٍ نسبي، وهي بالتالي لم تنته صلاحيتها بعد بالرغم مما أصابها من تقزُّم وتفكُّك عميقين مع انتشار ظواهر الشعبوية السياسية والاقتصادية – من الأمثلة هنا انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية وخروج بريطانيا من منظومة الإتحاد الأوروبي (بريكست).

كلا النموذجين يجب رفضهما. لا يسعنا بعد اليوم، في زمن كورونا وما بعد كورونا، أن نأتمن العولمة النيو-ليبرالية على حياتنا وأرزاقنا، ناهيك عن آمالنا وأحلامنا. فهل جلب لنا هذا النموذج الوظيفي-التَّكَسُّبي للعولمة شيئا آخر سوى احتكار رؤوس الأموال وتكدُّس الثروات

أما الفريق الثاني، فيحاجج مفكروه – يتوزع ميول هؤلاء بين يسارية تقليدية (ماركسية) ويسارية ديمقراطية-اجتماعية (على طريقة الدول الإسكندنافية) – بأن وباء كورونا فرصة ذهبية لتخليص التاريخ الحديث من آفة النيو-ليبرالية. تتركز طروحات هذا الفريق على ضرورة العمل الفوري على رزمة من الإصلاحات البنيوية، بدءا بإعادة هيكلة الديون العامة المترتبة على الدول، لإعادة تشكيل النظام الإقتصادي العالمي على أسس أكثر ملاءمة لمتطلبات العدالة الإجتماعية وحماية البيئة وتوزيع الثروة العادل بين الشعوب (وبين فئات الشعب الواحد) وتصحيح الخلل الحاصل في علاقات الإنتاج وثقافة الإستهلاك السلعي. باختصار، تشكّل كورونا عند هؤلاء جرسَ إنذار أخير: إما الإنقلاب الجذري على السائد بكل جوانبه أو ديستوبيا الهلاك الجمعي القادم لا محالة، بمعونة وباء ما، أتى من الصين أم من غيرها.

لكل من هذين الفريقين نموذج عولمة يرتئيه ويسعى إلى تسويغه وتسويقه لدى الحكومات ومراكز صنع القرار الأخرى، كمنظمات الأمم المتحدة ومجالس تمويل وتطوير البحث العلمي وشركات الأعمال الضخمة. كي نفصل بين النموذجين، علينا أن نحاول فهمَ النظرة الشمولية الخاصة بكل منهما لطبيعة التشابك العلائقي المعقَّد بين البشر، متى وأينما وكيفما حلوا، وعلى اختلاف انتساباتهم الحضارية وهوياتهم الثقافية، لا سيما تلك منها المتشكلة على أساس التمايز السوسيو-تاريخي – وليس الوراثي – بين الأعراق.

وعليه، يمكننا القول بأن مفكري الفريق الأول، أي النيو-ليبراليين، ينظرون إلى العولمة بوصفها تشابكا انتفاعيا للناس، قائما على الإشتداد المديد لأيديولوجيا الفردانية التي تجعل من السوق الحرّة إلها خفيا يلغي دور الدولة-الأمة والحدود الجغرافية الفاصلة بين الدول ويُقَدِّم القيمة المادية على ما عداها من القيم. أما مفكرو الفريق الثاني، أي أصحاب الميول اليسارية عموما، فهؤلاء ينظرون إلى العولمة بوصفها تشابكا رعائيا، قائما على الإمتداد الشديد للمصلحة العامة، تلك المصلحة التي يشترط حصولها وجود شُرعَة أخلاقٍ حميدة – رأفة ومودة ورحمة وتضامن – تجمع بين ضِدَّين: الاعتراف بخصوصية الآخر من جهة والنضال الأهلي والمدني الذي يسهم فيه الجميع لتحقيق العدالة الإجتماعية من جهة أخرى، ضمن ما يمكن وصفه بإنسانوية عالمية تتنافى، من حيث المبدأ والتطبيق معا، مع أيديولوجيا الفردانية.

برأيي، كلا النموذجين يجب رفضهما. لا يسعنا بعد اليوم، في زمن كورونا وما بعد كورونا، أن نأتمن العولمة النيو-ليبرالية على حياتنا وأرزاقنا، ناهيك عن آمالنا وأحلامنا. فهل جلب لنا هذا النموذج الوظيفي-التَّكَسُّبي للعولمة شيئا آخر سوى احتكار رؤوس الأموال وتكدُّس الثروات وسوء إدارة وتوزيع الموارد الطبيعية والبشرية واتساع رقعة الفقر وعدم المساواة والحروب والصراعات؟ لقد أرهقنتا ميثولوجيا النيو-ليبرالية. جعلتنا نُكَذِّب بحقيقة خلاص المجتمع الواحد، المتراصّ، المتآخي، فماذا كانت النتيجة؟ الإبادات المتتالية، ولا شيئ سوى الإبادات. نعم، إن وباء كورونا يستلزم منا شفافية غيرَ مسبوقة. فلنعترف: كل منا نسي نفسَه يوم نسي الآخر. أنا، عن نفسي، نسيت – أو أنستني أفكاري شبه-الداروينية، البقائية، البلهاء – أن صحة الصيني من صحتي، وصحتي من صحة الإيطالي، وما يلم بصحة الإيراني سيلم حتما بصحتي وما يعتري النيجيري سيعتريني، آجلا أم عاجلا. هذا الوباء، الذي يمشي بيننا مختالا، متعطشا لحصد المزيد من الأرواح، له حسنة واحدة: يَكشِفُ، أخيرا، عن الحجم الحقيقي لإرث النيو-ليبرالية اللعين، فَنُصعَق، ولكننا ندرك أنه من الآن فصاعدا يمكننا أن نفكر بوضوح.

ما البديل إذا؟ العولمة الإنسانوية الشاملة التي لطالما نادت بها معسكرات اليسار هي الأخرى لا تنفع. قد يحاجج البعض بأن متبنياتها النظرية، وإن كان يغلب عليها نمطٌ من العنجهية والجعجعة الوعظية الجوافة، سهلة ممتنعة – أذكر هنا مقولة معروفة للروائي الإنكليزي جورج أورويل: "إن فكرةَ توزيع الثروة بأكبر قدر ممكن من العدل تكاد تكون من البديهيات، فكيف للبعض أن يحاربها؟" ولكنها تبقى عولمة عمياء، بلا خارطة طريق عملية. فبينما تذهب العولمة النيو-ليبرالية بعيدا في التسليم بحتميات التنافس والتصارع بين البشر، أو ما يمكن الإشارة إليه أكاديميا بالبعد النيو-واقعي (realpolitik) للعلاقات بين الدول، تنزوي العولمة الإنسانوية في ركن استاطيقي، شاعري، ضيق، متجاهلة حقائق التاريخ المتمثلة في صراع لامتناه، يبرد حينا ويسخن حينا أخرى، على القوة والنفوذ والهيمنة، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. نعم، لتشابكنا نحن البشر جانبٌ مظلم جدا، بغض النظر عما إذا كان عضويا أو مكتسبا. هو جانب يأبى الإنسانويون الخوض في تداعياته على الفكر فتغدو تصوّرَاتُهم للكون ناقصة – من الطرافة بعض الشيئ أنه أثناء إعدادي لهذا المقال طالعتني "الجزيرة" بخبر تعديلات دستورية جديدة في روسيا ستسمح لفلاديمير بوتين بالبقاء في السلطة حتى عام ٢٠٣٦. يبدو أن كورونا التي عطّلت الحياة برمَّتها لم ولن تنجح في تعطيل مشاريع الإستئثار والاستبداد السياسية.

لا نيو-ليبرالية ولا إنسانوية إذا، فالمطلوب بالنسبة لي هو نموذج عولمة عقلانية يقوم على فهم التشابك العلائقي بين البشر بوصفه تشابُكَ ضرورة، فقط هكذا. فمن ناحية، علينا ألا نَتَوهَّم بأن وباء كورونا سينزع الشرعية عن كافة الصراعات القائمة ويوحّدنا ويؤلّف بين قلوبنا على طريقة الأفلام الهوليوودية. بل على العكس من ذلك، وغمزا من قناة وصف ترمب كورونا بالوباء الصيني، قد نشهد تَعُنُّتا فجّا وتوَحُّشا غيرَ مسبوق لقوى النيو-ليبرالية العالمية، ولنا في الحروب التجارية الباردة والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن مؤخرا على عدد من الدول النامية، دون أدنى مراعاة لمتطلبات التصدي لمخاطر الإنهيار الإجتماعي المتأتية من الوباء، خير مثال على ذلك.

ولكن، من ناحية أخرى، علينا أن نعي أن العالم قد أصبح بالفعل قرية كونية واحدة. قد نبغض ونُمَزّق بعضنا بعضا، لأسباب تاريخية لا عد ولا حصر لها، ولكنه لا يجب أن يمنعنا ذلك من إدراك ضرورات الحوار والتفاهم والتوصل إلى نقاط تلاق موضوعية حول كيفية الإدارة السليمة والعادلة، المستندة إلى العلم أولا وأخيرا، للمجتمعات والإقتصادات والسياسات الداخلية والخارجية. على مصلحاتنا العامة، كل منا في بلده، أن تتقَدَّم على ما عداها من المصلحات الخاصة. فأن تكون العولمة عقلانية يعني أن تتجزأ عولَمَات، تتفاصل بطبيعة الحال فيما بينها من حيث الموقع الجغرافي والتموضع الجيو-إستراتيجي ولكن تتكامل من حيث أزلية القلق على الوجود والديمومة. تماما كمسبحة العابد، إن هوى خيطُها الدائري هَوَت كل حباتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.