شعار قسم مدونات

المركزية الغربية في زمن الكورونا

blogs كورونا

إن حالة الفصام بين القيادة الفكرية والقيادة السياسية أفرزت لنا اليوم هذا الواقع المرير الذي كان لا بد منه لكي يعلم صناع القرار الورطة التي أوقعوا فيها العالم. إن حالة العالم اليوم مع فيروس كورونا هي حالة متناقضة مع وعود الساسة والأحلام التي رسموها لشعوبهم بعد أن أعمى اعينهم بريق التقدّم التكنولوجي والآلة الرأسمالية التي ظن العالم أن لن يقدر عليها أحد، مما أحدث حالة من جنون العظمة ليس فقط عند الساسة والحكام بل عند الجميع دون استثناء خلا بعض الأصوات الخافتة من بعض القيادات الفكرية التي أنهكها الصياح في واقع صاخب لا تكاد تسمع فيه إلا أصوات السيارات الفاخرة والحفلات الصاخبة ومدن الألعاب والمراكز التجارية.

 

لقد اعتبرت أزمة كورونا أزمة عالمية ولكنها لم تكتس عالميتها من كونها أصابت العالم المتخلف والمتقدم، أو الشمال والجنوب، أو الشرق والغرب على حد سواء، ولكن عالميتها تنبع من أنها أصابت أوروبا وأمريكا بمعنى أنها أصابت المركزية الغربية وكسرت كبرياءها، تماما مثلما حدث في الحربين العالميتين اللتان اكتسبتا عالميتهما من نفس المبدأ وزاوية النظر فلا يهم أن قارات بأكملها لم تشارك في الحربين العالميتين لأن ذلك لم ولن يخلع عنها ثوب العالمية، فالعالم عندهم هو أوروبا لأنها المركز والباقي لا قيمة له إلا من حيث هو هامش خادم للمركز. وغير بعيد عن ثنائية المركز والهامش التي تتحكم في تصنيف الأزمات فإن أزمة كورونا تمكنت من تعرية الرأسمالية الغربية وبيان هشاشة تحالفاتها الاقتصادية، هذه الهشاشة التي بدأت تظهر بوادرها قبل هذه الأزمة وتأكدت أكثر مع عجز الاتحاد الأوروبي أمام الكارثة الإنسانية في إيطاليا وإسبانيا، كما أن الأحادية القطبية التي تغنّت بها الولايات المتحدة الأمريكية صارت الآن ضربا من الخيال في ظل بروز ملامح جديدة لثنائية قطبية طرفها الثاني الصين وحلفاؤها الاقتصاديون.

 

بعد فشل القيادة الفكرية في أن تفرض كلمتها في مجال السياسة والاقتصاد حاولت السنيما من خلال ثقافة الصورة أن تمارس نقدا للرأسمالية الغربية من خلال جملة من الروائع السنيمائية كان أشهرها على الإطلاق فيلم "تيتانيك" الذي علّق عليه الناقد الفرنسي جاك أتالي في صحيفة لوموند سنة 1998م – عاما بعد نجاحه – قائلا:" تايتانيك هي نحن، إنها مجتمعنا الغربي المعتز بثقافته، والفخور بعظمته، مجتمعنا المنافق الذي لا يرحم فقراءه – مجتمع يتوقع فيه كل شيء إلا وسائل التوقع.. إننا جميعا نظن أنه يوجد جبل جليدي عائم ينتظرنا، يتربص بنا في مكان ما في المستقبل الضبابي، وسنصطدم به، ونغرق في أصوات الموسيقى".

 

مركزية الإنسان الغربي في ظل الرأسمالية طبعت تفكيره بالفردانية والأنانية مما جعله يتمركز حول ذاته في مقابل الآخر الذي يظل دائما هو الجحيم

وإذا كان "تيتانيك" قد أخذ نصيبه من التقدير في التسعينيات من خلال استشرافه لأخطار محدقة بالعالم الغربي لا تفرّق بين الغني والفقير والرئيس والغفير، فإن غرور الرأسمالية في الألفية الثالثة تتنكّر لكل نقد فكري أو عمل سنيمائي يواجهها، وقد تجلى ذلك -رمزيا- في جوائز الأوسكار، فعلى الرغم من ترشيح النقاد لفيلم الجوكر إلا أنه لم يفز بالأوسكار لأنه يجسّد بؤس الرأسمالية والنفق المسدود التذي وصلت إليه، هذا الأمر الذي طالما أرادت السياسة الأمريكية أن تتستر عليه وإخفاءه تماما كما يخفي "الجوكر" آلامه ومعاناته خلف ابتسامته المصطنعة، بل أكثر من ذلك حاولت المركزية الغربية تصدير الأزمة إلى الهامش كعادتها فأعطت الجائزة لفيلم كوري يجسد ذات الفكرة في قالب كوميدي سوداوي وهو فليم "الطفيلي"، لقد جسد فيلم الجوكر صرخة في وجه حذاء ساندريلا الذي جعل جوهر الإنسان في مقتنياته ومشترياته، وهذا ما تجسد في التدافع أمام المحلات والأسواق في أزمة كورونا التي كشفت نوعية الإنسان الذي أنتجته المركزية الغربية وصدرته للعالم من خلال محاولة عولمة نموذجها.

  

إن مركزية الإنسان الغربي في ظل الرأسمالية طبعت تفكيره بالفردانية والأنانية مما جعله يتمركز حول ذاته في مقابل الآخر الذي يظل دائما هو الجحيم بتعبير جون بول سارتر، ولكن كورونا – ولأول مرة- فتحت عيون الإنسان الغربي على واقع يشترك فيه مع الآخر في مواجهة نفس العدو، عدو لم يميّز بين الشرق والغرب، أقول هذا الكلام بعيدا عن نظرية المؤامرة التي تعتبر أزمة كورونا حربا بيولوجية لأن ذلك ليس ذا أهمية في الوقت الراهن، لأن ما يهم حقيقة هو أن وجه العالم سيتغيّر ولن يبق على الحالة التي كان عليها قبل الأزمة، والأهم من ذلك كيف ستتعامل المركزية الأوروبية مع هذا الوضع الجديد خاصة إذا كانت السيادة والريادة للصين المنتمي تاريخيا وجغرافيا إلى حضارة أخرى، ففي الوقت الذي انتقلت فيه السيادة العالمية من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فإن ذلك لم يعتبر تغييرا جذريا في المركزية الغربية على اعتبار أن الولايات المتحدة تمثّل امتدادا طبيعيا لهذه المركزية واجهت الآخر وألغت حقه في الحياة لتبني مجدها على أرضه، ولكن السؤال المشكل هو عن كيفية التعامل مع الوضع الجديد للعالم إذا كانت الريادة فيه للصين وحلفائها التي كانت منذ أمد ليس بالبعيد تستجدي أمريكا وأوروبا لتخليصها من الاستعمار الياباني. فهل ستساير المركزية الغربية بكبريائها هذا الصاعد الجديد الذي أبان عن قوته ونجح في أول اختبار حقيقي له؟، أم أن كبرياءها سيمنعها من التسليم له بهذه السهولة.

 

لقد أثبت فيروس كورونا أن السباق المحموم نحو التسلّح قد وصل إلى طريق مسدود فلكل طرف ترسانة نووية تكفي لنسف العالم، والولايات المتحدة الأمريكية التي بسطت هيمنتها على العالم في نهاية الحرب العالمية الثانية بقنبلتي "هيروشيما وناكازاكي" صارت اليوم كمن يبيع الماء في شارع السقايين، فلكل ترسانته والأمر لم يعد حكرا على الدول الكبرى، فإيران التي كانت تسعى جاهدة نحو التسلّح وعرّضت نفسها للعقوبات لم ينفعها كل ذلك عند تفشي وباء كورونا، وراحت تناشد الغرب لرفع العقوبات عنها. العالم اليوم أمام تحديات أخرى أهمها رهان البيئة الذي خسره الإنسان وسيدفع ثمنه غاليا إذا بقي غائبا عن حساباته السياسات الاقتصادية، بالإضافة إلى خطر الأوبئة والفيروسات التي ظن الإنسان أنه تحكّم فيها ولن تهدد حياته مجددا، وأنه لن يراها إلا على سبيل المتعة من خلال أفلام الخيال العلمي.

 

يبقى تساؤل أخير حول موقع المسلمين من كل ذلك في ظل إحتمالية تراجع هيمنة المركزية الغربية على العالم، ومن المعلوم أنه منذ أمد غير بعيد اعتبر التخلف ظاهرة إسلامية وقد ظهر هذا التصور منذ تلك الحوارات الدائرة بين أرنست رينان وجمال الدين الأفغاني حول الإسلام والعلم، ولكن ظهور تركيا وماليزيا كقوى اقتصادية صاعدة أبطلت صحة هذه المقولة إلى حد كبير، كما أن تخلّص بعض الدول العربية من لعنة النفط بتعبير صحيفة "ليزيكو" أبعد هذه التهمة عن العرب إلى حد ما، لكن هذه النجاحات الجزئية لن يطول أمدها إلا من خلال تحالفات اقتصادية أكثر فاعلية تجعل من فكرة "الكومنولث الإسلامي" التي طرحها مالك بن نبي فكرة قابلة للتجسيد على أرض الواقع لكن برؤية مختلفة تتماشى مع واقع يختلف اختلافا كبيرا عن الواقع الذي كان مالك بن نبي شاهدا عليه، وتتعامل مع تجربة الاتحاد الأوروبي بمنطق الاستيعاب والتجاوز بدل منطق الانبهار الذي كان سائدا قبل أزمة كورونا للخروج من وصاية المركزية الغربية التي كانت ولا زالت تسعى إلى حراسة تخلفنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.