شعار قسم مدونات

مِيزُوفُوبيا جرسِ العامِ الجديد.. حِين يعتقِلُك الزّمنُ ويُشغّلُ عدّاده!

blogs تأمل

لطالما آمنتُ أنّ المُدرِك لحقيقة الدّنيا هو شخصٌ ذاق ما لا يُستهانُ بِه من الألمِ، حتّى ملَكَ تمامَ النّضجِ أو لنقُل حتّى اِحترق وشقِي بعُمقِ إدراكِه. وحدهُ المُدرِكُ يعلمُ أنّ مرور الأيّام هو مُرُور بعضِه، وأنّ تسارع الزمن هو اِقتِرابُ جرسِ الإعلانِ عن أجلِه. دقّت ساعة مُنتصفِ اللّيل، مُعلنةً لحظة اِنتهاءِ عامٍ مِن عُمرِك، مُذكّرةً إيّاك بمُعتقلِ الزّمنِ المنسيّ في غياباتِ غفلتِك، مُعتقلِ العُمرِ الذي دخلتهُ منذ اللّحظة الأولى التي خرجت فيها مِن بطنِ أمّك باكِيا في وجهِ الحياةِ التي رسمت لك اِبتسامتها الخادعة، ثمّ رمت بِك في طريقِ هزائمِها المتتالية اللّامنتهية.

رأس السنة الميلاديّة.. عيدُ الميلادِ.. عامٌ جديد.. مُسمّياتٌ تسقِطُك كلّ عام في فخِّ الزّمن وتسرقُ جزءا جديدًا مِنكَ، وتُوهِمك بلحظات الفرحِ الواهِمة، تُعطِيك جُرعة الفرح الزائفة، وإذا بِها تُنسِيك أنّ كلّ هذه الضوضاء والصخب الذي حولك هو محضُ الرّنة المعهودةِ التي يُطلِقها عدّادُ الزمن، ولكنّك تأبى إلا أن تبقى مُستأنِسا بغفلتِك، ناسيا صفة الفناء فيك ومصرّا على أذيّة نفسِك بالغرور وطولِ الأمل. فيمَ أفنيتَ عُمرك؟ فيمَ أفنيتَ العام الذي تحتفِلُ بانتهائه؟ كمْ هدفَا وضعتَ ولمْ تتّخِذ خُطوةً واحدةً نحوهُ؟ كمْ ذنبًا تجرّأتَ بِهِ على الله ثمّ كرّرته وأعماك سترُهُ وإمهالُه؟ كم صلاةً ضيّعت؟ كمْ مرّةً عققت فيها والِديك؟ كمْ مرّة عصيتَ فيها ربّك سرّا وعلانيةً مُستخدِما في كُلّ هذا نِعمهُ عليك؟

إنّه الموتُ، اللّحظةُ الفارقةُ والفخّ الذي وقعنا فيه منذ الولادة، اللّحظةُ التي ينتهي فيها كلّ شيء ويبدأ معها كلّ شيء، اللّحظة التي تقترب منها النّفس البشريّة إلى حتميّة الموت كلّما تقدّم عدّاد الزمن

كمْ مرّة آذيت من حولك بحسدك؟ كم ضيّعت مِن وقتٍ في مُراقبة الآخرين والتنظيرِ عليهِم؟ هلْ وصلتَ لمُستوى ما فوق الصّفر في قراءة القرآن وتدبّره والعملِ بِه؟ أين وصلت قراءةُ الكُتُب في الرّقيّ بفِكرِك وأخلاقِك؟ هل سألت نفسَك حِين دقّ جرسُ فناء عامٍ مِن العُمر كلّ هذه الأسئلة؟ ثمّ هل سألتَ نفسَك أين وصلت الدّنيا في قلبِك؟ تُراها تجاوزت في نفسك قيمة جناحِ البعوضة، أم أنّك بِعت دِينك بعرضٍ قليلٍ مِنها ولهثتَ مع كلّ لاهثٍ، ورميتَ بضميرك على البِلاطِ أيضا لأجل شيء من هذه الدّنيا. إيهٍ يا رسول الله كم صدقتَ كما صدقتَ في كلّ قولٍ وفعلٍ حين قُلتَ : لَتتّبِعنَّ سَنَنَ من كان قبلكُم شبرًا شِبرًا وذِراعَا ذرَاعًا حتّى لوْ دَخَلوا جُحر ضبٍّ تبِعتُمُوهُم.

وَمَا هَذِه الحياةُ الدّنيَا إلّا لهوٌ ولَعِبٌ وإِنَّ الدّار الآخِرةَ لَهِيَ الحيوانُ لوْ كانُوا يعلَمُون، إنّ جحيم هذه الدّنيا أن يجعل المرء عمله فيها ولَهَا، وأن تكون هي منتهى أمله وسعادته، وأن يُطبَع على قلبِه فيتوهم البقاء، فلا يكترثُ إذا خرج من جنّة التقوى إلى نار الغفلة، ولا إن اِختار ظلام الحرامِ من نور الحلالِ. لا يكترثُ إذا لمَس قلبه يتحسّس الضيق الذي يعصر ضلوع نفسِه كلّما عصى الله فلا يجدُه، ولا يُصِيبُه الرّعبُ إذا دخل يفتّشُ عن نورٍ يأخذه إلى الله فإذا به سواد فوق سوادٍ وظُلمةٌ تعقُبها ظلمة، ولا يصرخُ فزعا ولا يُنادِي بتوبة تنجيه من وحلِ معصيته، لله درّ الحسن البصريّ لمّا قال : فضح الموتُ الدّنيا فلمْ يترُك لذِي لُبّ فرحا، والموتُ على ما فِيه من أهوال وشدائد إلّا أنّه باب يدخل منه إلى غيره فإمّا نعيمٌ وإمّا جحيم، فليستعدّ العاقل لتلك اللّحظات والعاجزُ من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني..

إنّه الموتُ، اللّحظةُ الفارقةُ والفخّ الذي وقعنا فيه منذ الولادة، اللّحظةُ التي ينتهي فيها كلّ شيء ويبدأ معها كلّ شيء، اللّحظة التي تقترب منها النّفس البشريّة إلى حتميّة الموت كلّما تقدّم عدّاد الزمن. خُذ تكّة ساعة منتصف اللّيل وسمّها فرصة جديدة للنّجاة، وتوقّف معها عن الثرثرة، ساعيا نحو حياةِ السّلام والتقوى التي ترجو بِها أن تذهب إلى دار السّلامِ، وصدّقني إن كنت شخصا مُدركا لحقيقة الحياة فيجبُ أن تكون مريضا بِمِيزُوفُونيا جرس العامِ الجديد، ويجِبُ أن تُفزعك أضواء الألعاب النّاريّة التي تُغطّي في كلّ عامٍ وجه السّماء الطاهر الذي تنظُرُ إليه ذات ضيقٍ أو ذات تأمّلٍ فتقول: يا الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.