شعار قسم مدونات

التفاؤل وهم أم حقيقة حياتية

blogs تفكير

صدر الحكم بتجريمي بالجنون وأني منفصم الشخصية أعيش في عالم الأوهام برر القاضي ذلك بقوله كيف لعاقل أن يتفاءل ويبقى لديه أمل وهو يعيش في هذا الواقع البائس وشددت العقوبة علي بتهمة الاحتيال لأنني أبيع الأمل للناس والأمل بضاعة لا رصيد لها في الواقع الحالي، هل أنا مجنون حقاً أم تراني أهرب للأمل الذي هو سلاح الضعفاء الذين لا يجيدون التعامل مع الوقائع كما يقولون.

   

إن كان التفاؤل هو النظر لنصف الكأس المملوء فهذا يعني التعامي عن حقيقة أن نصف الكأس فارغ وهذا يشبه العدالة العوراء فما بالك أن كان الكأس فارغاً تماماً وأنت تتكلم عن كأس مملوء في المستقبل، فهل حقاً تفاؤلنا بنصر وبفرج هو حقيقة أم هروب من واقعنا المرير، مرت علي أبيات أبي البقاء الرندي التي تقطر أسى بعد أن شهد سقوط مدن الأندلس واحدة تلو أخرى

لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شأن

   

تأملتها بعمق أبيات حكيمة تحكي عن تغير دائم في أحوال الدنيا بين الحزن والسرور والسيادة والضعف ربما هي الدورة التاريخية التي تكلم عنها ابن خلدون تخيلتها تدور كالعجلة تطحن أناس وتعلي آخرين بنفس الوقت لكنها لا تتوقف أبداً عن الدوران عند أي كان وكما يوزع الشر على الجميع فلكل نصيبه من الخير.

 

حر الصيف ينضج الثمار نعم لكنه ملتهب يجعلنا نشتاق لبرودة الخريف ليخلصنا من لهيب الشمس، لكن برودة الخريف ستذهب خضرة الأشجار ليتبعها زمهرير الشتاء لنتشوق إلى دفء الربيع وعبق أزهاره الفواحة لكن الأزهار لا تؤكل والثمار لن تنضج إن لم تكويها شمس الصيف اللاهبة وهكذا تدور الفصول لتعلمنا أن لكل شيء منافعه وعقابيله وهكذا الحياة كمالها بتنوع فصولها وتعاقبها.

 

إذا هل نتفاءل أم نتشاءم بما ستأتي به الأيام من خير أو شر سواء في أمورنا الشخصية أم الأمور العامة، التعمق في النظر إلى الخير والشر مهم جداً لكي نتوازن فنتحكم بعواطفنا حزناً وسروراً، كم من مصيبة انتهت بخير لأنها شحنت الهمم وحفزت القدرات فانقلبت الهزيمة إلى نصر والمحنة إلى منحة فكان خيرا لكم، وكم من خير انقلب شراً فأصبحت السيارة الفارهة هي سبب الوفاة وأصبح المنصب الكبير هو الوبال الأكبر على صاحبه فصار شراً لكم.

 

سواء كان التفاؤل فطرياً أو مكتسباً حقيقة حياتية أو علاجاً وهمياً يبقى التفاؤل أمراً إيجابياً يخفف وطأة الحياة على صاحبه

إن احتمالية أن تأتي الأيام بالخير أو الشر وارد والمنطق يقول أن نتحسب لكلا الأمرين معاً، لكن تفاؤلنا بقدوم الخير سيبعد عنا العوامل السلبية من تشاؤم وإحباط وعلى الأقل يقتصر حزننا على ساعة المصيبة فقط ولا تمتلئ حياتنا بالنكد قبلها أما بعد المصيبة فكما يقال كل شيء يبدأ صغيراً ويكبر إلا المصيبة فإنها تكون كبيرة ثم تصغر، تفاؤلنا يجعلنا بصحة نفسية أفضل لمعالجة القادم من الأخبار سواء كان سيئاً أم جيداً وكما أسلفنا يحتاج التعامل مع كلا النوعين من الأحداث إلى ضبط المشاعر قدر الإمكان لأن الفرح الحقيقي هو عند النتائج النهائية وليس المرحلية.

 

ربما لا يأتي الفرج إلا حين استحكام حلقات الشدة ولعلنا شاهدنا هذا كثيرا في حياة البشر وأحياناً في عالم الحيوان أيضاً فهذه لبوة تقتل أم القرد الصغير ثم تنتبه لوجود الصغير فتقوم برعايته بسلوك يعاكس طبيعتها المفترسة وتلك غابة تحترق لتفسح المجال لبذور نادرة كي تنبت من جديد.

 

لا تنتهي قصص الدنيا دائماً بشكل رومانسي كما في القصص وعاشوا بثبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات فقد ورد أن نبي الله يحيى قد قطعت رأسه وقدمت لمومس من مومسات بني إسرائيل لتشرب فيها الخمر وبموت الأبطال انتهت قصة أصحاب الأخدود وربما انتهت بانتحار طاغية كهتلر لكن كم من الملايين كانوا ضحايا للطريق الذي قاد بلده فيه ونستطيع أن نقول إن عدالة الدنيا ليست مطلقة لكن أيا كان مصير المرء فتصالحه مع نفسه بفعل الخير سيجعله متفائلاً بأنه سينال الخير إن لم يكن في الدنيا ففي الحياة الآخرة حيث العدالة المطلقة، وحتى الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة تجد أن المتصالحون منهم مع قيمهم يكونون متفائلين عادة حتى حين التضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم أي أن القيم ستخرج صاحبها من ربقة الأنانية والنظرة السوداوية للحياة.

 

منذ التسعينات شغلت الدراسات الفيزيلوجية لتأثير التفاؤل والحالية المزاجية الجيدة على صحة الجسم والتمتع بشيخوخة جيدة حتى أنهم أسموا التفاؤل بالدواء الوهمي وفي سنة 1998 أطلق الطبييب مارتن سليجمان اختصاص جديد في الطب النفسي أسماه السيكولوجيا الإيجابية تدرس أثر الجوانب الإيجابية والتفاؤل في حياة البشر وما يمكن أن تؤثرفي نقاط قوتهم وتنمية قدراتهم.

 

ليس سراً أن أي بشري سيتعرض لمحن ومصاعب متعددة وهو أمام خيارين فإما أن يخوض امتحاناته وهو قلق مضطرب يضع الفشل أمامه ويساهم في إحباط الآخرين أو يكون العكس فيشحذ همته وهمم المحيطين به ولا يخفى على أحد دور الدعاية السلبية لتخذيل الأعداء في الحروب ودور الدعاية الإيجابية في كل المجالات بما فيها التسويق التجاري للسلع، أما بالنسبة للتفاؤل بعد حدوث فاجعة ما فهو أمر عقلي بامتياز يعبر عن طريقة تفكير ناضجة فلكل مصيبة ألطاف تحفها وربما تكون وقاءاً من مصيبة أكبر منها أو لعل فيها جوانب خير لم نراها حين الفاجعة.

  

طريقة التفكير هذه تمنع انهيار المرء أو أن يصاب بجلطة دماغية أو قلبية وهذا المعنى أشير له بحديث شريف من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط أي أن طريقة التعامل مع الفاجعة ستعود على الشخص نفسه بالخير أو الشر، وفي النهاية نقول إن التفاؤل قد يكون موروثاً فطرياً وقد يكون اكتساباً فإنما الحلم بالتحلم وإنما الصبر بالتصبر وربما كانت الخنساء مثالاً صارخاً عن الأمر فحين مات أخوها صخراً قبل الإسلام ظلت تبكيه وتقول الشعر حتى فقدت نور عينيها وكان موقفها معكوساً بعد معركة القادسية إذ قالت بعد أن بُلغت باستشهاد أبنائها الأربعة الحمد لله الذي فرحني باستشهادهم وإني لأرجو الله أن يجمعني بهم في الجنة، وسواء كان التفاؤل فطرياً أو مكتسباً حقيقة حياتية أو علاجاً وهمياً يبقى التفاؤل أمراً إيجابياً يخفف وطأة الحياة على صاحبه، ولعلنا أكثر حاجةً إليه في أيامنا العصيبة هذه ودمتم بالخير متفائلين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.