شعار قسم مدونات

صدمة حضارية.. أين يلقي الألمان قمامتهم؟

blogs قمامة

لنتخيل تجربة كمفارقة التوأم التي تخيلها ألبرت أينشتاين والتي فيها يقوم أحد التوأمين برحلة إلى الفضاء بواسطة صاروخ فضائي ينطلق بسرعة قريبة من سرعة الضوء ثم يعود إلى موطنه ليكتشف أنه قد أمضى عمرًا أقل من أخيه التوأم الذي ظل على الأرض، هنا لنفترض شخصين أحدهما في مصر والآخر في ألمانيا، ولنفترض أن اليوم هو يوم قبض الراتب الشهري، فأراد الشخص المصري أن يشتري قطعة شوكولاتة لابنته الطفلة الصغيرة، وبينما هي تأكل نظر إليها فوجدها قد قامت "بتفعيص" معظمها في الأرض، فإذا كان شخص طبيعي محترم سوف يقوم بتنظيفها بمنديل ورقي ويجمع المنديل ببواقي الشوكولاتة والكيس الذي كانت الشوكولاتة بداخله ويلقي بهم في سلة القمامة، أما إذا كان غير ذلك فربما يلقي بهم من النافذة في الشارع.

 

على مسافة تزيد عن أربعة آلاف وخمسمائة كيلومتر في ألمانيا هناك شخص آخر في نفس اللحظة قام بنفس السيناريو، ولكنه في هذه الحالة عليه أن يلقي بهذه الأشياء في 4 سلال قمامة مختلفين: قطعة الشوكولاتة التي قامت الطفلة "بتفعيصها" في سلة، والمناديل الورقة التي نظفها بها في سلة ثانية، والكيس الذي كانت فيه قطعة الشوكولاتة في سلة ثالثة، والإيصال الورقي المكتوب فيه ثمن قطعة الشوكولاتة في سلة رابعة.

 

لكل منزل صناديق ملونة يدفع أهله ثمنها، ولكل صندوق بلون ومعين نوع مختلف من القمامة يجب أن يوضع فيه، في مواعيد محددة تقوم الحكومة بإرسال عمالها لجمع القمامة من الصناديق

منذ أن تزوجنا وقد اتفقنا أننا سوف نسعى لخوض تجربة جديدة في دولة أخرى، للسماح لأنفسنا بالاستكشاف والتعلّم والسعي في دنيا الله، على أن نؤجل هذه الخطوة حتى يتم الزواج نفسه ونستقر في عملنا وحياتنا قدر الإمكان، وبعد أن أنجبنا وأنهت زوجتي رسالة الدكتوراة الخاصة بها، رأت أنه لا يجب على الكيميائي التوقف عند نقطة معينة ولنبذل جميعًا أكثر، وإذا أردت أن تعتبر هذا تحذيرًا ضمنيًا من الزواج من كيميائية فاعتبره كذلك، فلو كنت مكانك كنت سأعتبره تحذير أيضًا، فقد تفتح جهاز الميكروييف يومًا لتسخن بعض الطعام فتجد فيه مواد كيميائية، أو تفتح سخان المياة لتشرب كوبًا من الشاي تزيح به وجع الحياة فتجد قطعة سلك "استنالس" من قد وضعت من أجل عدم التفاعل بين الماء وجدار السخان أو أشياء من هذا القبيل لن تجد سبيلًا إلى فهمها أو تفسيرها.

 

لم ولن أفترض بأن هناك جنان على الأرض، فالجنان فقط من صنع الله، ولكنه منح البشر من جماله وحكمته التفكير في جعل حياتهم أفضل وأيسر وأكثر عدالة، وبالطبع يشوب سعي البشر إلى التحسين والكمال الكثير من النقص والعوار، وهكذا الحال عندما أتينا إلى هنا كان هذا المعنى في عقلي، فلم أُصدم ببعض السوء والعنصرية والنقصان لأنني رأيت منها الكثير في بلادي، ولكنني وبرغم علمي المسبق بالمستوى المختلف فكنت أدع نفسي تنبهر وتستمتع بالتفكير في كل شيء أستحسنه، كنت أتمعّن فيه وأدقق وأتفكّر، وأقول له أنت من منحتنا جميعًا من جمالك وكمالك سعينا لتحسين حياتنا، ولكن هناك من سمحوا لأنفسهم أن يستغلوا الإمكانيات في التحسين والرقي والمساواة ما استطاعوا، وهناك من استغلوها في المزيد من القهر والتفرقة بين الناس في مستوى معيشتهم.

  

كانت أحد أكثر الأشياء التي جعلتني أفكر فيها طويلًا هي كيفية إدارة القمامة في ألمانيا، ووضع قوانين تنظيمية محددة ليس فقط للتخلص منها بل للاستفادة منها، من خلال جعل ذلك مسؤولية الناس أنفسهم بمساعدة ومراقبة وإدارة الحكومة، فلكل منزل صناديق ملونة يدفع أهله ثمنها، ولكل صندوق بلون ومعين نوع مختلف من القمامة يجب أن يوضع فيه، في مواعيد محددة تقوم الحكومة بإرسال عمالها لجمع القمامة من الصناديق، ولكل منزل عدد مرات معين في السنة، إذا زادت عدد المرات عليه أن يدفع مقابل لجمعها، فتكون النتيجة أن تشعر بالإحسان البشري حتى في إدارة الناس لقمامتهم، وبالتالي الإحسان في مناحي أخرى عديدة في حياة البشر، ومن حسنات الإحسان أنه يزيد من فرص المساواة والشعور بالعدالة بين من يسيرون في الشارع معًا، من يقود سيارته، ومن يمشي على قدميه، كل منهما يعرف أن عليه نفس الواجبات عليه أن يقوم بها، وله نفس الحقوق يجب أن يحصل عليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.