شعار قسم مدونات

"التوتر النافع".. سياسة أمريكا في مواجهة إيران

blogs حاملة طائرات

زمن حكم جورج بوش الابن انتهجت الولايات المتحدة الأمريكيّة سياسة ما أسمته إدارتها حينها بسياسة "الفوضى الخلاّقة" التي خلّفت دمارا شاملا في بلدين مسلمين مجاورين لإيران هما أفغانستان والعراق، الشيء الذي سمح لإيران بالتمدّد غربا وشرقا على حساب دول الجوار خاصّة بالعراق ولبنان ثمّ بسوريا فاليمن، أمّا في الزمن الراهن، فيمكن تسمية السياسة التي تعتمدها إدارة دونالد ترامب في الخليج العربي بسياسة "التوتّر النافع" الذي تختلقه وتتحكّم في منسوبه بالقدر الذي يضمن تواصله دون تحوّله إلى حرب، وذلك ريثما يحين الوقت المناسب لجني المحصول الذي زرعته سياستها بالمنطقة. 

وحتما ستقصّ الإدارة الأمريكيّة في نهاية السيناريو الذي أعدّته لفلمها الجديد بالمنطقة أجنحة المارد الإيراني وتُرجعه إلى حجمه الطبيعي بنفس المقصّ الذي استعملته لانفاذ الخارطة الجيوسياسيّة الجديدة بالمنطقة العربية المضمّنة في "صفقة القرن"، وتكريس هيمنة كيان العدوّ الصهيوني على دول المنطقة.

منذ نشأة كيان العدوّ الصهيوني عقب الحرب العالميّة الثانية كانت ولا تزال مصالح إسرائيل المحدّد الأساسي للسياسة الأمريكيّة بالمنطقة، وقد زادت هذه السياسة في تجذّرها عقب تقلّد التيّار الصهيوني المتطرّف في الحزب الجمهوري مقاليد الحكم تحت قيادة جورج بوش الإبن في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين. وقد عملت هذه الإدارة على فرض هيمنة الكيان الصهيوني على كامل المنطقة العربيّة من خلال ضرب أيّ توجّه يعد بنهضة عربيّة تؤسّس لسيادة فعليّة لدولها وتحرير لمجالها المنهوب.

ما لم تستطع الدول الغربية تحقيقه ضدّ الجمهورية الاسلامية الإيرانية منذ نشأتها سنة 1979 صار اليوم متاحا نتيجة انتشار قواتها خارج مجالها الوطني وانكشاف إمكاناتها للرادار الغربي

جنّدت الإدارة الأمريكيّة وحلفاؤها كلّ إمكاناتهم لوأد أيّ نفس تحرّري أو نهضة محتملة في المجال العربي، وذلك أنّى كان مهد تبلورها إن كان في قلب الدولة كما في الحالة العراقيّة تحت حكم صدّام حسين، أو في مجتمعات مجال ثورات الربيع العربي في مرحلة لاحقة في سوريا ومصر وتونس وليبيا واليمن، ففي الحالة العراقيّة شنّت الولايات المتّحدة حربا مباشرة على الدولة العراقيّة مجنّدة كافة قواعدها وأحلافها بالعالم والمنطقة لتدميرها وبناء أسس لدولة تابعة تحافظ على مصالحها تحت أيّ غطاء طائفيّا كان أو مذهبيّا أو غيره. وفي تلاق لمسارات جيواستراتيجيّة دوليّة وإقليميّة تركت لإيران الحظّ الأوفر لرسم ملامح الدولة العراقيّة الجديدة على أسس طائفيّة معادية لمحيطها السنّي بجزيرة العرب وبلاد الشام، وهذا ما سمّته إدارة البيت الأبيض على لسان وزيرة خارجيّتها آنذاك قونداليزا رايس: "سياسة الفوضى الخلّاقة".

أمّا بمجال الربيع العربي فقد عملت الإدارة الأمريكيّة بكلّ جهدها للإطاحة بثورات شعوبه، إذ استخدمت للغرض تكتيكات تختلف حسب الحالة، وظّفت في أولاها قوى الدولة العميقة داخل تلك الدول للقيام بثورات مضادّة، وقامت في حالتها الثانية بفسح المجال لقوى إقليميّة مجاورة للتدخّل، حتّى وإن حملت أجندة مختلفة، ففي الأخير سوف تحقّق لها هدفها الإستراتيجي المتمثّل في القضاء المبرم على ثورات التحرّر العربي وتخريب بلدانها إن لزم الأمر، في تواصل مع "سياسة الفوضى الخلّاقة" الأولى. تمثّلت الحالة الأولى لهذا التوجّه الأمريكي في مصر أحسن تمثّل، وذلك من خلال دعم عسسها في الجيش المصري في انقلابهم على الرئيس المنتخب محمد مرسي في 3 جويلية (يوليو) 2013، وإعادة تثبيت حكم العسكر ونظام الإستبداد وقمع الحريات. أمّا الحالة الثانية للتوجّه الأمريكي فتجلّت في سوريا بكلّ وضوح من خلال فتح المجال لإيران ومحورها الدولي (روسيا) والإقليمي (حزب الله اللبناني) للتدخّل المباشر لوأد ثورة الشعب السوري وإسناد النظام العلوي بالسلاح والمليشيات الشيعيّة المقاتلة على الأرض السوريّة. 

وفي نفس هذا التمشّي حرّضت الإدارة الأمريكيّة السعوديّة والإمارات على التدخّل في اليمن لوأد ثورة شعبه تحت عنوان محاربة الحوثيّين الشيعة والمدّ الإيراني المتصاعد بهذا البلد، من الواضح أنّ إيران تقع في نفس الفخ الذي نصبه الأمريكان لصدام حسين سنة 1990 عندما أعطوه الضوء الأخضر لغزو الكويت… نفس السيناريو تحبكه الدول الغربية مجتمعة غداة اتفاقها النووي مع إيران، حيث سمحت للأخيرة بلعب دور متقدّم في المجال العربي (العراق وسوريا) ذهب بها حدّ التدخّل العسكري المباشر. وقريبا سيعي ساستها حجم وفداحة هذا الخيار الاستراتيجي القاتل لمستقبل دولتهم ودورها في المنطقة. فضياع البوصلة الإيرانية يسعد الصهاينة.

فما لم تستطع الدول الغربية تحقيقه ضدّ الجمهورية الاسلامية الإيرانية منذ نشأتها سنة 1979 صار اليوم متاحا نتيجة انتشار قواتها خارج مجالها الوطني وانكشاف إمكاناتها (البشرية والتكنولوجية والعسكرية والاتصالية…) للرادار الغربي ومراصده الاستراتيجية، هذا إضافة إلى خسارة تعاطف الشعوب العربية معها، وعلى عكس ما يذهب إليه البعض يبدو لنا أنّ حصار إيران من القوى الغربية يتدعّم اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، أمّا في الجانب الجيواقتصادي ففي السنوات الخمس الأخيرة أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر منتج للبترول بمعدّل 12.3 مليون برميل يوميّا سنة 2019 وهو ضعف ما كانت تنتجه عام 2010. يحدث هذا عقب دخول كبريات شركات الانتاج شال وأكسون وشفرون (Shell، Exxon Mobil،Chevron) مجال استغلال البترول الصخري بولاياتها الجنوبيّة (تكساس ونيومكسيكو) والتي تخطّط لمضاعفة إنتاجها ثلاث مرات على مدى الخمس سنوات القادمة (إلى حدود سنة 2024).

في المحصّلة، وكما يُجمع عليه الخبراء الاستراتيجيّون، ستسعى أمريكا للاستحواذ على الأسواق التقليديّة لدول الأوبيك وعلى رأسها السعوديّة -كثاني منتج للبترول في العالم- وإيران، الشيء الذي يجعل احتدام التوتّر في منطقة الخليج أمرا مريحا للشركات الأمريكيّة التي يعمل ترامب ضمن أجنداتها من خلال تأمين أسواق جديدة لمنتجاتها، وهذا ما يندرج ضمن ما سمّيناه بسياسة "التوتّر النافع" التي ينتهجها الأمريكان، وحسب خبراء الطاقة، فقد قام ترامب في السنوات الأخيرة بعقد اتفاقات ثنائيّة مع أكبر المستهلكين للطاقة في الدول الصناعية الصاعدة مثل الهند والصين وكوريا الجنوبية وغيرها، ويتمّ هذا بطبيعة الحال على حساب نصيب دول الأوبيك التي ستشهد في المستقبل القريب أزمة لتسويق منتجاتها البتروليّة.

ويبدو أنّ حالة الانقسام التي يشهدها مجلس التعاون الخليجي مفيد أيضا لسياسة "التوتّر النافع" الأمريكية، إذ أنّ الحصار السعودي الإماراتي على قطر يساهم في زيادة بيع الأسلحة

وتستعمل الولايات المتّحدة في ذلك كلّ الأسلحة التي بحوزتها للوصول لغاياتها الجيواستراتيجيّة، ومن بينها: 
– سلاح العقوبات التجارية المسلّطة على إيران التي ستقلّص من نصيبها في تزويد السوق العالمية بالبترول.

 
– تواصل حالة التوتّرات الأمنيّة بالخليج العربي ومضائقه البحريّة لغاية الابتزاز المالي لدول الخليج التي ستدفع مقابلا ماليّا لتأمين مجالها التجاري البحري وخفر ناقلاتها البتروليّة، مع إنعاش سوق بيع السلاح لهذه الدول الخاضعة!

– فرض شروط مستحدثة في السوق العالميّة تعطي الأفضليّة لبيع البترول الخفيف المنتج في الولايات المتحدة الأمريكية على البترول الثقيل المنتج خاصّة في دول الخليج بتعلّة حفظ البيئة، وقد بدأت المنظمة البحريّة الدوليّة بعد (IMO) بتنفيذ قرار تخفيض نسبة الكبريت في المازوط من 3.5 إلى 0.5 بالمائة كحدّ أقصى، ابتداء من جانفي 2020.

ويبدو أنّ حالة الانقسام التي يشهدها مجلس التعاون الخليجي مفيد أيضا لسياسة "التوتّر النافع" الأمريكية، إذ أنّ الحصار السعودي الإماراتي على قطر يساهم في زيادة بيع الأسلحة والخدمات العسكريّة لكلّ الأطراف، مع فائدة مباشرة أيضا للتحكّم في مستويات الانتاج من الغاز المسال والنفط وأسعارها عند الأطراف المتنازعة، أمّا الاستعراض الأخير للقوة العسكرية الأمريكيّة بمياه الخليج العربي فيندرج ضمن سياسة ما سمّيناه "التوتّر النافع" الذي تحرص الإدارة الأمريكيّة على التحكّم في منسوبه، وللتغطية على سياسة الابتزاز المالي التي اعتادت على انتهاجها حيال محور صفقة القرن الخليجي. 

وفي نفس السياق تساعد هذه السياسة على تحيين المعادلة الجيوستراتيجية لصالح بلدها كهدف متوسّط المدى مع شركائها الروس واليهود في العمليّة الجديدة الدائرة رحاها لاقتسام الكعكة العربيّة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة. وما تمثيليّة التصعيد العسكري مع إيران إلّا فصلا من فصول هذا الفلم الأمريكي الجديد، فإيران تعرف حدودها جيّدا وهي لا تلعب بالنار، إذ كان المخرج الهوليوودي قد وظّف خطّا هاتفيّا عبر سويسرا للتفاوض المباشر بين الرئيسين الأمريكي والإيراني.

وبطبيعة الحال ستدفع السعوديّة وباقي المحميّات الخليجيّة تكلفة تسخير الإدارة الأمريكيّة لقوّاتها المسلّحة من حاملات طائرات وبوارج وطائرات وصواريخ تكتيكيّة فتّاكة كمقابل لتأمين طرق التجارة البحريّة لدول الخليج. وحال بلوغ سياسة "التوتّر النافع" أهدافها ستعيد الإدارة الأمريكيّة هذه الترسانة العسكرية إلى قواعدها، كما لن تتورّع من تحويل جزء من هذا النهر المالي الخليجي المتدفّق للولايات المتّحدة نحو الخزائن الخاصّة لكبرى الشركات العالميّة (عبر-الوطنيّة، STN) قبل تسليم مفاتيح البيت الأبيض الأمريكي لمحتال آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.