شعار قسم مدونات

مهْلاً رمضان.. لم ترقَّ حُمّى قُلُوبِنا بَعد!

blogs دعاء

سنواتٌ مرّت وقلبُك يعتصرُ ضِيقًا، ليالٍ ثقال أمضَيتها تضعُ على جبهةِ نفسِك كمّادات التمنّي، وفي كلّ ذات وحدةٍ تقول غدا أبدأ بالتغيير.. غدا سأكون مختلفا.. وغدا أنا أخرى غيرَ التي أنا عليها اليوم، يمرّ العمرُ ويُغريك طول الأمل، تُجمّع الذنب فوق الذنب وتركُنُه في كهوف نفسك المظلمة، يُضنيك النّواح ليلا، وها أنت تكفكف برَدَ دمعِك نهارا، ملتفتا إلى ذات الكهف المدلهمّ، تغريك نفسك بمعانقة نفس المعصيةِ التي بتّ ليلا أدهمَ تبكي آملا التوبة منها..

يُطلّ عليك شهر رمضان وأنت بهذا السّواد والحيرة والتذبذب بين خير نفسك ونورها وبين دهاليز الظلام التي بنيتها بنفسك في نفسك، تحاول التقرب إلى الله والعودة إليه منكّسا رأسك مستحييًا من كلّ فعلٍ قبيح، وكل كلمة مؤذية، من كل نظرة حرام وكلمة حرام، تمشي خُطوة نحْوَه وتشعرُ أنّ أدْرانَك تُقعِدُك، تقفُ لتمشي نصف خطوةٍ أخرى وتتذكّر ما اقترفته فتظنّ أنّك من رحمته مطرود، تقفُ لتخطُو نحوهُ في محاولةٍ جديدة، ولا ترحمُك الذّاكرة إذ تعود بك إلى تفحّص كل تفاصيلِ الميل والزّيغ والاعوِجاج وكلّ ما ترَكَتهُ فيك من ضِيق، تخرجُ منك الزّفرات حارّة، تبحثُ عن ملجأ غير الله، وسندٍ غير الله، ومنجاة في غير الوقوف على بابه، فلا ترى الحمم في براكين روحك إلّا تزدادُ رغبةً في التهامك وجعلك من الهالكين.

ها هو تعبٌ ترفعُه بدل أمّك لتريحها فتنقذك إحدى دعواتُها من مُصابٍ كاد يُهلِكُك، وهذا صبرٌ يُنزِله الله برحمتِه على قلبِك في لحظاتٍ رُبّما مُحالٌ أن يصبِر فيها شخصٌ تمكّن منه الضعف مثلك

ويطلّ عليك اليقين بألّا ملجأ ولا منجى من ربّك إلا إليه، ربُّك الذي أحياك علّك تبلغُ رمضان وعلّك تُجاهد هذه النّفس التي أتعبتها فأرهقتك، ربّك الذي أراد أن يُعطيك فرصةً لتتذوّق حلاوة طاعتِه وحُبّه بعد أن ذُقت مرارة معصيته والإعراض عن ذكره، أراد لك ربّك أن تكون من القائمة المسجّلة في مدرسة الثلاثين يوما ليؤدبك عن ذنوب الخلوات، عن سوء الظنّ، عن الغضب وعواقبه، عن أكل عرق النّاس وحقوقهم، عن الكبرِ واحتقار من تظنّ أنّه أدنى منك منزلة ولعلّه عند الله أعزّ وأعظم مكانة منك، ليؤدّبك عن الوحشيّة التي تجتاحُ نفسك ولم تفكّر يوما أن تصفدها كما تصفّدُ الشياطين، علّك تتذكّر أنّك خُلِقت إنسانا وما كان لك لتكون وحشًا إلّا باختيارك..

منحك الله فرصة جديدة أغلى من كلّ الفرص السابقة التي وهبك إيّاها ولم تُلقِ لها بالا ليقول لك "قُل يا عِبادِي الذينَ أسْرَفُوا على أنفُسِهِم لا تقْنَطُوا مِن رحمَةِ الله، إنّ الله يغفِرُ الذّنوب جمِيعا إنّهُ هو الغفُورُ الرّحيم"، ليقول لك في آياتٍ مُحكماتٍ لا تقبلُ الخطأ ولا الشكّ "وإذا سَأَلَكَ عِبادِي عنّي فَإِنّي قرِيبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دعانِ فلْيستَجِيبُوا لِي ولْيُؤمِنُوا بِي لَعلّهُم يَرْشُدُون" لتتسع شرايين قلبك فيسري فيها بردٌ وسلام وتفردُ روحُك أجنحتها في حُريّة لم تنلها إلّا بتمام التسليم والاستسلام لربّ المغفرة والسّلام..

ها هي سجدةٌ قصيرةّ في زمنها رُبّما، ولكنّها عميقةٌ في خشوعها، وهاهو دمعُك لظٌّ اصطلت بِه أجفانُك حتّى ارتوَى بِه قلبُك، وهاهي أنفاسُك مُحتدِمَة حتّى خفّ عنها الضيقُ، كقُرحةٍ لازمتك زمنًا وأقعدتكَ طريح فراشٍ وذهبت بنور ملامحِك وزهرة الشباب في مُحيّاك، أو كدمّلٍ اشتدّ قيحُها وآن لها أن تُفرغ من صديدها وتلتئم.. ها هي امرأة عجوزٌ تحدّب ظهرُها تعترضك بأحد الطرق وتطلبُ مِنك أن تساعدها لتقطع الطريق أو تحمِل عنها كيسا أعجزها ثقله كحسنةٍ ساقها الله إليك لتمحو بها إحدى سيئاتك.

وها هو تعبٌ ترفعُه بدل أمّك لتريحها فتنقذك إحدى دعواتُها من مُصابٍ كاد يُهلِكُك، وهذا صبرٌ يُنزِله الله برحمتِه على قلبِك في لحظاتٍ رُبّما مُحالٌ أن يصبِر فيها شخصٌ تمكّن منه الضعف مثلك، وها هي رحماتُ تتلُوها رحمات، ورسائلُ تتلوها رسائل، لترقّ أيّها المحمومُ حُمّى قلبِك، ليلهج قلبُك بالرّجاء مُستغيثا مُلبّيا نداء ربّك إذ قال (أمّن يُجيبُ المُضطرّ إذا دعاهُ ويكشِفُ السّوء)، من هذا الذي يجيبك أيّها المضطرّ؟ ومن هذا الذي يكشِفُ عن نفسك سوئها؟ من هذا الذي يُغيثُك من وقعِ ما تكالب عليك من ابتلاءات؟ من هذا الذي يغفرُ ذنبك وأنت الذي لا تتوقف عن الإسراف على نفسك؟ من هذا الذي ينجيك مِنك؟ وهو الذي له ملك السماوات والأرضِ وأنت له وإليه راجع؟ أإلهٌ مع الله؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.