شعار قسم مدونات

صراع الـ 5G.. هل تستحق هذه التقنية أن تقوم الحروب لأجلها؟

blogs 5G

تنتقل قيادة العالم الآن من القوى الحاكمة إلى القوى المؤثرة، ربما هذا هو الدرس المستفاد الواضح من أدخنة الحروب التجارية المتصاعدة لصاحبها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي وصف قبل انتخابه بأنه أكثر مرشحي البيت الأبيض هجوما على الصين، وهو ما امتد أثره على رئاسة ترمب طوال ثلاثة أعوام من التمهيد بتصريحات نارية مستمرة وصولا إلى اختبار الاجراءات والتنفيذ عند الإعلان عن هدنة تجارية في أول ديسمبر 2018. على مسار مواز وبعد خمسة أيام فقط من بداية الهدنة أعتقلت كندا المديرة التنفيذية لشركة هواوي الصينية "مينج وان تشو" بناءا على طلب من واشنطن تحت اتهامات خرق هواوي للعقوبات الأمريكية على إيران وسرقة بيانات شركات الاتصالات والتكنولوجيا الأمريكية.

  

وبعد مرور أسبوعين فقط من الهدنة المزعومة سربت الصحف الأمريكية اعتزام إدارة ترمب إصدار أمر تنفيذي في يناير 2019 ضد أنشطة هواوي لخطورتها على الأمن القومي الأمريكي، هنا كشف الرئيس ترمب ضمنيا عن حقيقة نواياه من الحرب التجارية ضد بكين التي سايرته في محادثات تجارية طويلة أمطرت فشلا واضحا أعقبه قرار سريع من إدارة ترمب بوضع هواوي على القائمة السوداء للتعامل مع الشركات الأمريكية منتصف مايو 2019. فليست لكمات الرسوم الجمركية المتبادلة ولا العجز التجاري الأمريكي مع الصين أعلى صخبا من الحملة الشرسة ضد شركة هواوي التي تبدو الآن كضحية جيوسياسية في مرمى نيران الحرب التجارية بين الجانبين، فهل أصبحت هواوي بالفعل قوة مؤثرة تقلق للغاية منافسيها من القوى الحاكمة؟!

   

الإجابة الواضحة أكدتها مبيعات هواوي في ختام الربع الأول من 2019 حيث حلت الشركة الصينية في المركز الثاني عالميا بعد سامسونج الكورية وقبل أبل الأمريكية، وربما تفاصيل هذا الترتيب تكشف عن التفوق الوحيد لهواوي بين الثلاثة الكبار بمقارنة بيانات الربع الأول في كل من العامين 2019 و2018، حيث سجلت عدد شحنات هواتف سامسونج نحو 71.9 مليون هاتف متراجعة من 78.2 مليون هاتف، أما شحنات آبل بلغت نحو 39.5 مليون هاتف متراجعة من 52.2 مليون هاتف، أما هواوي فقد حلت محل حصة أبل المفقودة في سوق الهواتف الذكية وزادت عليها بفرق التراجع الحاصل في حصة سامسونج حيث شحنت هواوي في الربع الأول من 2019 نحو 59.1 مليون هاتف مقارنة بنحو 39.3 مليون هاتف في نفس الفترة من 2018

     

  

إذن إدارة ترمب تجري خلف قطار جامح قد تحرك بالفعل وتحاول جاهدة عرقلته، وليس بسبب نمو المبيعات القياسي فقط ولكن لمضمون تقنية شبكات الجيل الخامس التي تتزعمها هواوي وتقدمها إلى العالم بناء على أربعة أجيال سابقة للاتصالات الخلوية أتقنها الغرب وساهمت بشكل أصيل في ازدهار اقتصاداته، ولكن ما هي الأجيال الأربعة وما هو الجيل الخامس؟!

 

الجيل الأول G1 هى تقنية الاتصال بالهاتف النقال وقد أضيف لها خصائص الرسائل النصية وتحويل البيانات إلى أكواد رقمية فيما يعرف بالجيل الثاني G2 الذي فتح فيما بعد الآفاق لتقنية الجيل الثالث G3 عالية السرعة عبر إرسال واستقبال أغلب الوسائط بالنصوص والصوت والصورة. أما الجيل الرابع 4G LTE الذي تستخدمه أغلب الهواتف الذكية حول العالم وأفرز أنظمة التطبيقات Apps وتعتمد عليه هواوي في بناء شبكاتها، قد لعب بمهارة على وتر سرعة نقل البيانات وقام بمضاعفتها بنحو ثمان أضعاف سرعة G3، لتبدء حقبة رقمية هائلة جديدة مع شبكات الجيل الخامس G5 التي توفر سرعات غير مسبوقة للإنترنت بأكثر من مائة مرة من السرعة الحالية لشبكات G4، فالثانية الواحدة في الجيل الخامس تقارب 1000 جيجابايت وتعادل أكثر من دقيقتين في الجيل الرابع بأقصى درجات تطوره!

  

ولك عزيزي القارئ بعد التقاط الأنفاس أن تعقد ما شئت من مقارنات وتتخيل ما تريد أعاجيب على شرف ما سيقدمه G5 الذي سيتجاوز كل ما هو بشري ويجعل الجمادات تتكلم وتتفاعل ذاتيا فيما يعرف بإنترنت الأشياء Internet of Things وهو الذي تدور توقعات قيمته التجارية حول 12 تريليون دولار، أي أقل بتريليونين فقط من حجم الناتج المحلي الإجمالي للصين.

 

تتفوق الصين الآن في تصدير صورتها للعالم كمركز قوة مع احتفاظها داخليا بخصائصها الهائلة "من موقع جغرافي ومساحة كبيرة وثروات بشرية رهيبة واقتصاد قوي للغاية" كمركز للفرص التي لا غنى للعالم عنها

هنا لنا وقفة نتأمل فيها أهمية جانبين أولهما تلك القيم المادية والمعلوماتية الهائلة التي ينشئها الجيل الخامس والتي بلا شك تساعد الصين في انتزاع صدارة الاقتصاد العالمي من الولايات المتحدة الأمريكية، وثانيها هذا الأثر المباشر لتقنيات G5 على الترسانات العسكرية والنظام المالي العالمي اللذين قد يخرجا عن السيطرة البشرية، فتتغير موازيين حاكمة استقرت لعقود لصالح قوى مؤثرة ذات وتيرة متسارعة للغاية.

 

لهذا فرق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بين الضروري والعاجل، ضرورة الحروب التجارية التي يطول امدها بين مبررات واجراءات ومناوشات ومفاوضات متقطعة، وبين العجلة في ضرب هواوي مثال النموذج الصيني الذي سيضع كل بيانات وماديات مستهلكي العالم في جيوبه العميقة، وهو ما يفسر أيضا تلك الاستجابات السريعة لقرار ترمب بتحريم هواوي على الشركات الأمريكية التي بادرت أكبرها "جوجل وفيسبوك" بتنفيذه استكمالا للحرب على هواوي من جانب، ولإسكات قضايا الاحتكار التي تواجهها من جانب اخر. أما الصين عبر هواويها رائدة الجيل الخامس واستنادا لصبرها وجهدها المتراكمين وتفوقها الذي صار صاروخيا، فأنها تعلمت أن تفرق بين أمرين "مركز القوة ومركز الفرصة" وهي تلك الزاوية التي يمكن أن نفسر بها افعال وردود أفعال الصين على كل ما يحدث حولها وكل ما تريد أن تصل إليه.

 

على المشهد الكبير تتفوق الصين الآن في تصدير صورتها للعالم كمركز قوة مع احتفاظها داخليا بخصائصها الهائلة "من موقع جغرافي ومساحة كبيرة وثروات بشرية رهيبة واقتصاد قوي للغاية" كمركز للفرص التي لا غنى للعالم عنها. أما على مشاهد التفاصيل على سبيل المثال فسندات الخزانة الامريكية التي في حوزة بكين لن تتخلص منها لأنها مركز فرصة رابحة ومضمونة توازن بها عواصف المتغيرات وكذلك تواجد شركة أبل الامريكية الكبير داخل الصين لن يتم انهائه سريعا ردا على قرارات ترمب فهو مركز لفرص نقل البيانات واستمرار الوظائف والتمييز بين منتجات البلدين، حتى استبدال هواوي لأنظمة التشغيل الأمريكية وتوسعها المستمر "رغم الحملة ضدها" في أكثر من ثلاثين دولة لبناء شبكات الجيل الخامس هو مراكز للفرص المفتوحة من قمة المجتمعات المتقدمة وصولا لأفقرها .

 

ختاما، لا تنشغلوا بحاضر وغبار الحروب التجارية أكثر من مستقبل وجلاء ما تسفر عنه معارك الجيل الخامس، فمن يملك الاشياء ليس من يشتريها، أنما من يستطيع ان يقدمها ويستوعبها ويوجهها، والصين أصبحت تمتلك الكثير والخطير والمؤثر من وسائل قيادة العالم في معركة مفتوحة على مصراعيها مع المنافس الأمريكي الشرس جدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.