شعار قسم مدونات

"فخ ثوسيديدس" وسلوك ترمب الدولي

blogs ترمب

احتفل العالم الغربي الأيام الماضية بتخليد ذكرى إنزال النورماندي والذي يعتبر أكبر عملية إنزال في التاريخ العسكري المعاصر حين شن الحلفاء بتاريخ 6 يونيو 1944 هجوما قصد كبح المد النازي وكما هو معتاد شارك ترمب قادة بريطانيا و15 دولة أخرى في إحياء الذكرى، في حين غاب عن الحفل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لم توجه إليه دعوة للمشاركة في الحفل الأمر الذي يفهم منه عدة دلالات، خصوصا وأن الصراع المتعدد الاطراف مع المارد الروسي في أوجه.

  

ترامب كعادته تحدث بالأسلوب الإعلامي المعتاد والذي يعتمد أسلوب التمجيد واسطورة أمريكا، معتمدا هذه المرة على ثيمات من قبيل القوّة الخارقة والشجاعة وعظمة جيشه القادمة من عمق المحبة" فضلا عن الأسطورة التي لا تموت، لكن بعيدا عن الشعبوية الترامبية ورمزية الحدث العسكرية التي تنبهنا ان في وقت ما وصل حدة التنافس بين الدول حد الصدام المميت، يعود بنا النورماندي إلى قرارات ترمب المميتة ومواقفه الغير الدبلوماسية والتي اوصلت واشنطن حاليا لمستويات غير مسبوقة من المجازفة بمصالحها الاستراتيجية والتي جعلت العديد من قادة العالم غير قادرين على التنبّؤ بما سوف تنتجه لاحقا من تداعيات في ظلّ اتسام جميع قراراته بالانفعالية والمزاجية، إذ وصلت حد التناقض مع مواقفه معلنة سابقا.

 

يهدف فخ ثوسيديديس إلى تقديم واحد من احتمالات المصير المتوقع لما سيحصل بين بلدين ما نموذجا، وكما هو معلوم تم محاكاة هذا المبدأ على سلوك الولايات المتحدة الامريكية مع دول أصبحت فاعلا في التوازنات الدولية كتركيا روسيا وإيران

من وجهة نظر أخرى، يمكن اختزال السياسية الترامبية بأوجهها المتعددة في اتجاه استراتيجيته الخاصة بالأمن القومي، والتي جعلت العديد من التوابث الدولية في سلوك الولايات المتحدة الأمريكية متغيرة، وهو ما جعل العديد من الباحثين في حقل السياسة الدولية والمتابعون لها من كتاب ومدونين يستخدمون العديد من المصطلحات والمفاهيم قصد تحليل الوضعية الحالية التي يعيش فيها العالم، من أبرز هذه المصطلحات والمفاهيم المتداولة مؤخرا في السنوات الاخيرة مصطلح فخ ثوسيديديس.

 

يهدف فخ ثوسيديديس إلى تقديم واحد من احتمالات المصير المتوقع لما سيحصل بين بلدين ما نموذجا، وكما هو معلوم تم محاكاة هذا المبدأ على سلوك الولايات المتحدة الامريكية مع دول أصبحت فاعلا في التوازنات الدولية كتركيا روسيا وإيران، دون نسيان الصين التي دخلت في حرب تجارية مفتوحة مع ترامب، على هذا الأساس الاقتصادي يمكن العودة إلى المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس قبل ألفي سنة عندما ألف كتاباً عن الحرب بين أثينا وإسبرطة، وأعطى فيه للعوامل الاجتماعية والاقتصادية الدور الأكبر في نشوء الصدامات العسكرية، وخلص إلى نظرية مفادها أنه مع وجود قوة مهيمنة، فإن نشوء قوة صاعدة سيؤدي لا محالة إلى حرب طاحنة بين القوتين.

 

ملاحظات المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس حول الحرب البيلوبونيسية التي جمعت بين إسبارطة وأثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، برزت من جديد وبشكل كبير سنة 2017 مع كتاب: “ماضيان نحو الحرب.. هل تستطيع أميركا والصين تجنب فخ ثوسيديدس؟ لجراهام أليسون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد والذي قد سبق أن مهد له عبر مقالاً نشر في سنة 2015 حول هذا المفهوم في مجلة ذي أتلانتيك الأميركية، والذي لخصه في المخاطر المحدقة عندما تنافس قوةٌ صاعدة قوةً مهيمنة، على غرار تحدي أثينا لإسبارطة في اليونان القديمة.

 

في نفس الوقت لا يمكن أن نجزم ان جراهام أليسون هو الوحيد الذي اعطى نفس جديد للإرث ثوسيديديس، إذ وجب الاشارة هنا إلى الفاعل السياسي ايضا لما له من مكانة في تحريك للافكار والمبادئ وبالذات كلمة الرئيس شي جين بينغ بالمؤتمر المركزي للعمل الاقتصادي في الثامن عشر من ديسمبر 2015 والتي أشار إلى إمكانية الصدام مع الصين في إطار فخ ثوسيديديس.

 

بلغة الأرقام يمكن أن نستحضر أحد أهم توجهات السياسة الترامبية، إذ تشكل حصة التجارة من إجمالي الناتج المحلي 37 في المئة في الصين و84 في المئة في أوروبا، بينما 26 في المئة فقط في الولايات المتحدة، مما يعطي ترمب موقفا متشددا حول التجارة، وهو ما يسميه الإجحاف في الترتيبات التجارية الأميركية، إذ يعتبر أكثر رئيس أمريكي يركز حول الملف التجاري لأمريكا.

 

خلاصة الوضع الحالي اليوم بمؤشراته المتناقضة والغير الثابتة، الولايات المتحدة تقاوم محاولات تجاوزها كقوة عالمية ولن تقبل بالتنازل، وستفعل كل ما هو ممكن للبقاء قوة وحيدة

من جهته كان ستيف بانون كبير المستشارين السابق لترامب قد توقع أن تخوض واشنطن حربين: واحدة فى بحر الصين وأخرى فى الشرق الأوسط. إذن يبحث ترمب عن "حرب مقدسة" تحفظ الهيبة والهيمنة لبلاده وأمام هذا الواقع، تبدو فرضية التصادم بين الولايات المتحدة وإحدى القوى الصاعدة قائمة، لا بل هي مرجحة، إن لم تكن قد أصبحت الأقرب إلى التحقق.

 

لكن التساؤل اليوم مع من سوف يكون الصدام من القوى البارزة اليوم هل مع الصين في ظل احتدام الحرب التجارية وأغلب المؤشرات والتحليلات تتجه نحو هذا الطرح أم مع روسيا في ظل العودة القوية لروسيا للساحة الدولية والتي قد تستبعد من أي صدام مباشر نظرا لسلوك الخارجية الروسية التي يعتمد على المهادنة والمناورة المتواصلة بين الملفات المتعددة التي بين يديها من صراعات إقليمية في إطار.

 

من جانب آخر ليس لترامب أزمة فقط مع الصين وروسيا فقط إذ فاقمت سياسة إدارة ترمب إتجاه إيران من مخاطر النزاع العسكري، وقد أدى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، إلى إطلاق سلسلة أحداث أسفرت في نهاية المطاف عن التصعيد الراهن والذي قد يتحول إلى مواجهة عسكرية، اعتمادا على تضخيم المعلومات حول تحركاتها العسكرية بالخليج، لكنها فشلت في تخويف إيران أو زحزحة الموقف الإيراني الثابت رغم أنه منهك بالعقوبات التي أصبحت تؤثر على نسيجه الاجتماعي واستقرار.

 

خلاصة الوضع الحالي اليوم بمؤشراته المتناقضة والغير الثابتة، الولايات المتحدة تقاوم محاولات تجاوزها كقوة عالمية ولن تقبل بالتنازل، وستفعل كل ما هو ممكن للبقاء قوة وحيدة مهيمنة في العالم مما يجعل من الصدام العنيف هو القاعدة وليس الاستثناء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.