شعار قسم مدونات

ما خُفيَّ وراء القضبان أعظم!

سجن2

عندما تطالب الشعوب بالحريات، فإنها تطالب بأدنى حقوقها كإنسان، والتي نُصت في أوراق ووقع على أدناها في الاتفاقيات العالمية والتي يحكمها قوانين دولية، يُحرم تجاوزها وانتهاكها وسلبها من الشعوب، ولكن لأي مرحلة قد يكون وصلها شخص ما، يخبرك وعيونه مغرغرة بالدموع "كنت أدعو الله أن أموت الأن" وأن الزنزانة الانفرادي والقبر وجهان لعملة واحدة.. فلماذا تعرضت يا صديقي؟

 

قبل خمس سنوات من الأن وهي بداية طريقي لقراءة الروايات البوليسية، تم إهدائي سلسلة روايات أحدهم وأهمهم رواية القوقعة للكاتب السوري مصطفى خليفة، وهي رواية تسرد يوميات شاب ألقى القبض عليه لدى وصوله إلى مطار بلده عائداً إليها من فرنسا والذي فوجئ بتهمة الإرهاب وأنه أحد مؤسسي المنصات الإخوانية ولكنه طوال الرواية ينادي للسجان أنا مسيحي والله يا سيدي..

 

كانت قد أظهرت الرواية الظلم والفساد والقساوة التي لا تقرها أي شريعة والذي بذكاء سرده قام بمعايشتي كقارئة أحداث الرواية الجنونية وأساليب التعذيب التي لم أسمع ولم أرى لها مثيل من قبل؛ فالرواية تظهر الظلم والاستبداد الذي يتعرض له المواطن من قبل أنظمة ومؤسسات حكومة البلد، التي تتبع أساليب تعذيب تقود المتعقل لبابين اما باب الموت أو باب الأمراض والجنون، والذين أغلبهم في منتصف المرحلة يفقدون أمل العيش ويتمنون الموت على أن يستمر هذا التعذيب، فيصبح الموت أمنية جميلة ومريحة عن هذه الحياة؛ فيا إلهي!

 

انتهاك الحرمات، الضرب على الرأس بعصي الحديد، التعليق من الأرجل وشعر الرأس، خنقنه بأكياس البلاستيك.. إلى آخره مما لا يُوصف! وهذا لأجل الاعتراف على اللاشيء

لن أنكر بأنني لم أنم ليالٍ طويلة بعد قراءتي الرواية والتي تركت أثر سلبي اتجاه نفسيتي كإنسان يتصور الحياة أكثر سامية ولكن الأحداث لم تبقى مطبوعة برأسي طويلاً ولكن في نفس الوقت كنت بهذه الفترة أتسآءل أيعقل يا الله أن يكون الظلم في بلادنا قد وصل ذروته أو أننا فعلاً على آخر الزمان.. وكما نعلم أن الحياة تلاهي والرواية وحدها لا تكفي دليلاً لئن اكتشفت بأنني لم أنسى والأحداث تعيد نفسها على أرض الواقع الأن والحياة تدور بدائرتها من جديد لنرى ما هو أسوأ وتكشف لنا المستور وراء قضبان لا ينجو منها أحد لا جسد ولا روح، فالأن نسمع ونشاهد قصص حقيقية وروايات حقيقية من بشر حقيقين لا يكمنون في عقول فقط الكتاب والروائيين، بل بالفعل تعرضوا لما هو أسوأ مما دون وسجل في الكتب من ظلم واستبداد ولا يمكن أبداً وصف شعوري عندما استمعت لهذه الناس وكل ما أذكره بأنني أردت أن أتقيأ.

 

من الجلسة الأولى اعترف بأنني ترددت على استكمال الحديث والاستماع لهذه الناس الفارة من جهنم المعتقلات السياسية المملوءة بدماء أرواح المظاليم والمنتهكة حقوقهم ولكن مغناطيس بأصواتهم لأعود وأستمع لهم وأنني صغيرة جداً بجانب عملاقة تجاربهم وها هم يحاربون من جديد، كان صوتهم يأخذني للنظر في وجوههم الجريحة والتعمق في عيونهم وأرواحهم المنكسرة، لئن أصبحت لا يقشعر بدني ولا تحرك برأسي شعرة وأصبح من العادي أن يقيم أحدهم في الزنزانة مع ألف جثة متحللة لمدة خمسة وثمانون يوماً، تحت الأرض الطابق السادس، لا يرى ضوءً، وأن طفلاً في الرابعة عشر مات؛ اغتصاباً.

 

إن الفظاعات التي ترتكب بحقوق المواطنين بالسجون وبحق المعتقلين السياسيين، لا أجد وصفاً لها أبلغ من شبح الموت الذي يحوم لقبض أرواح حرياتنا وكرامتنا كشعوب؛ فلا يستطيع البشري العاقل أن يتصور كمية التعذيب الذي قد يتعرض له إنسان مثله والذي من شدة التعذيب يموت بكلا الأحوال إن لم يفنى جسده؛ تفنى روحه، فالتعذيب والتنكيل في السجون والمعتقلات لبعض أنظمة وحكومات البلدان تعتبر انتهاك للأرواح قبل الأجساد وإنَّ كل سجين مر بتجربة عصيبة كهذه ظلماً؛ يموت جزءً من روحه لا يحيى ولو فقد الذاكرة نفسها، ونحن الذين لم نمر بهذه التجارب ولم نخوض شكة دبوس في احدى المعتقلات السياسية أو السجون، جلَّ انبهاراتنا اتجاه أولئك الأشخاص كيف نجوت من الموت؟ فيخبرنا ببساطة لا، لم أنجو، فالذاكرة تطبع والندبات تُذكر والروح لا تشفى من آلامها.

 

انتهاك الحرمات، الضرب على الرأس بعصي الحديد، التعليق من الأرجل وشعر الرأس، استخدام الأصوات البطيئة لنرفزة أعصاب السجين حرمانه للضوء، حبسه مع الأموات، خنقنه بأكياس البلاستيك.. إلى آخره مما لا يُوصف! وهذا لأجل الاعتراف على اللاشيء، كل ما أرادوه هو أن يطووا صفحات من الظلم والاستبداد والقهر وأن يكون لديهم خيار حرية الاختيار، أرادوا إسقاط أنظمة تسرق رغيف خبزهم، كانوا يسعون وراء عيشهم الكريم وأن ينالوا أدنى حقوقهم من تعليم وصحة وحياة والعثور على ابتسامتهم الآمنة وكرامتهم المحفوظة.

 

لم أكن يوماً أستطيع أن أتصور ما هو المعتقل السياسي وماذا عن ابن جلدتي يعذبني ويديه ملطخة بدمائه التي تحمل نفس هوية الوطن، ينتهك حرمات جسدي وروحي لئن مررنا بهذه التجربة وفقدنا العزيز والأن بصوت شجين أنادي الشعوب العربية التي لا تحتاج سوى أن تتحرر من قيودها وتعلن ثورة على الظلم السياسي وإدراك مدى حجم خطورة الحرب التي تدور على ساحاتنا. كما أيضاً يتطلب منا رفع الأقنعة الزائفة وأن نتوقف عن الاختباء وراء الستار، تسترا ً من الأنظمة الديكتاتورية المخبئة وراء الشعارات الديمقراطية والدبلوماسية الكاذبة وسجونها تقال عكس ذلك، حيث يتم متاجرة الدين والعقول ويشكلون شعارات ملونة زائفة بها يرفعون رايات السلام الملطخة بدماء الأبرياء والشرفاء والحجاب يرفع لندرك ونرى الظلم عندما فقط نكون أيضاً نحن شرفاء.

  

وفي النهاية علينا أن نؤمن بأنفسنا وحقوقنا فقد وعدنا الله عز وجل أن الظلم سيزول في كتابه العزيز ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ فمن ماذا نخاف؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.