شعار قسم مدونات

بين القراءةِ والمشاهدة.. هكذا نستفيد من أشكال الثقافة المتعددة

BLOGS قراءة

إن كان عمرك أقل من ثلاثين عاماً، فعلى الأغلب قرأت ولو جزءاً من أجزاء هاري پوتر السبعة، وشاهدت فيلماً من الثمانية على الأقل، ومررت بنقاش مع أحدهم عن الفارق بين الروايات والأفلام، أو عن عمل آخر من الأفلام المبنية على روايات، وقابلت على الأرجح ذلك القارئ (هذا إن لم يكن هو أنت) الذي يرفض أصلاً المقارنة بين الأفلام والروايات، فالأفلام تفسد العمل الأدبي، وهي منتج للبيع والإثارة ولا اعتبار فيه للقيمة الفنية والرسالة الأخلاقية أو الفكرية. سنناقش هذا لاحقاً، لكن قبلها، عندما تريد أخذ فكرة عن موضوع معين، إلى أيّ أشكال التلقي تلتجئ، قراءة كتاب عن الموضوع أم مشاهدة فيلم وثائقي بالخصوص أو محاضرة مسجلة عبر اليوتيوب، وما العوامل التي تحدد اختيارك؟

  
يرفض القرّاء عادةً المقارنة بين القراءة والأشكال الأخرى للتلقي واكتساب المعرفة (أو الترفيه) كمشاهدة الأفلام السينمائية أو الوثائقية أو المحاضرات المسجلة أو الفيديوهات التعليمية أو حتى الاستماع إلى الكتب الصوتية أو نحوها، منتصرين للقراءة باعتبارها الوسيلة الأسمى لتلقي المعرفة، بل وحتى المتعة، فهي عبر التاريخ وسيلة الثقافة العليا ومستودعها. في المقابل، فإن عدد مشاهدي الأفلام المبنية على روايات يكون أكبر من عدد قارئي الرواية نفسها عادةً، ومشاهدات الأفلام الوثائقية والمحاضرات المسجلة أكثر من الكتب المقروءة، ما يعني أن الأفلام والمواد المصوّرة أكثر انتشاراً، وهو ما قد يدل أنها أوسع تأثيراً، فأيهم ينتصر، القراءة أم الأشكال الأخرى للتلقي؟

تعد القراءة سواء كانت كتاباً في الفلسفة أم رواية، مقالة في الصحيفة أم قصيدة واحدة من أكثر العادات انتشاراً بين الناس عبر التاريخ، وتختلف حولها الأسباب بين من يعتبرها هواية للترفيه والمتعة وقضاء الوقت، ومن يعترض مؤكداً أنها عملية شاقة وجادة بهدف اكتساب المعرفة والثقافة، ومن يجمع بين الأمرين فهي هواية مسلية ومصدر للفائدة والمعرفة. لكن لا خلاف أن القراءة عادة راسخة عند نسبة كبيرة من الناس، وقيمة عليا في معظم المجتمعات، وهي دليل يقاس من خلاله مدى تطور الأمم، والأفراد على حد سواء، فلهذه الممارسة مكانة لا تحظى بها غيرها فيبالغ بعضهم في تقدير أهميتها وأثرها حتى لتصبح الحل السحري الفوري لكل المشاكل والصعوبات، فلن نتقدم ولن نتحرر ولن نقضي على الفقر والبطالة والظلم إلا بالقراءة. وعلى تشابه طبيعة ومهام ومواضيع القراءة مع أشكال أخرى من التلقي كالمشاهدة والاستماع، إلا أن القراءة تحتكر وحدها هذه المكانة والسطوة على صعيد التنظير، فتصطف منفردة كوسيلة أولى على رأس وسائل اكتساب الثقافة العليا.

  

القراءة وإن انفردت بامتيازات كثيرة، فإنها تظل في النهاية عملية جادّة تتطلب وقتاً أكثر وجهداً أكبر، بينما تختصر الفيديوهات والأفلام بنوعيها والتسجيلات الصوتية الوقت وتتجاوز الملل

والاختلافات بين القراءة والمشاهدة والاستماع اختلافات قائمة ومؤثرة، فالقراءة هي ساحة اللغة التي تظهر فيها سحرها وبيانها، فالمواد المسموعة تقيد اللغة وتحرم الكاتب من حرية الإبداع في استخدام أساليبها وتفرض عليها المباشرة والسهولة حتى لا يلتبس على السامع معنى النص، أما المكتوب فهو منصاع لمدى براعة الكاتب وبديهة القارئ. كذلك فإن القراءة، الأدبية على الخصوص، تطلق العنان لخيال القارئ، فهو يصوغ الشخصيات والمواقف والتبريرات والتأويلات والتوقعات على حسب مخيلته، أما مشاهد الفيلم فيسلم نفسه دائماً لمخيلة صانع الفيلم.

  

والقراءة، بطبيعتها البطيئة مقارنة بالوسائل الأخرى، تعطي وقتاً أكبر للهضم، فالمحاضرات المصورة تعطي في ساعتين كمية من المعلومات المركزّة والمتتابعة، قد يحتاج الكتاب إلى رحلة 3 أيام من القراءة ليغطيها، فتؤدي الكثافة في العرض إلى حرمان الذهن من راحة الامتصاص المتأني الذي يسمح بقدر أكبر من الفهم والربط والتحليل بينما تعطي القراءة الفرصة للوصول إلى تجربة أكثر عمقاً وفائدة وإن تشابهت القيمة الحقيقية للاثنين. وعندما يتعلق الأمر بالبحث والأكاديميا فالكتاب يصلح مرجعاً وأداة يمكن قياس دقتها ورصانتها العلمية والرجوع إليه والاحتفاظ به وهما أمران ممكنان ومفيدان على المستوى البعيد، عكس المواد المشاهدة والمسموعة التي يصعب الرجوع إليها أو الانتقاء منها أو الاحتفاظ بها.

وإلى جانب الاختلافات السابقة التي ترجح بوضوح كفة القراءة، والتي يمكن أن تسمح التجربة الفردية باختلاف أو انقلاب النتائج المترتبة عليها في بعض الحالات، تحسم الأبحاث العلمية المسألة لصالح القراءة، فالدراسة التي أصدرها فريق من جامعة توهكو اليابانية عام 2013 توضح أن زيادة عدد ساعات مشاهدة التلفاز مرتبط بزيادة عداونية الأطفال وانخفاض مستوى مهارات المنطق اللفظي لديهم، وفي المقابل أوضحت دراسة أجراها فريق من جامعة إيموري الأميركية أن قراءة الروايات تزيد من التواصل في أجزاء من الدماغ متعلقة باللغة، وتزيد من نشاط المنطقة الحسية الحركية في الدماغ. وعشرات الدراسات الأخرى توضح ارتباط القراءة بتقليل مستويات الإرهاق والتوتر والضغط النفسي وتحسن الصحة بشكل عام.

هل يعني هذا انتصار القراءة تماماً؟ ربما لا، فالقراءة وإن انفردت بهذه الامتيازات كلها، فإنها تظل في النهاية عملية جادّة تتطلب وقتاً أكثر وجهداً أكبر، بينما تختصر الفيديوهات والأفلام بنوعيها والتسجيلات الصوتية الوقت وتتجاوز الملل، فالأفلام بحكم تقيدها بالوقت تختصر لحظات الملل والتكرار، وتجسد التفاصيل المدونة في صفحتين في مشهد لا يتجاوز الثواني، فهي أقل وقتاً و في نفس الوقت أكثر ترفيهاً، والمحاضرات المسجلة تمنح المشاهد/المستمع تجربة أكثر عمليةً فهي أكثر تركيزاً كماً وكثافةً وأقل تعقيداً، ويضاف إلى ذلك في الأفلام الوثائقية عامل المتعة.

  

التلفاز واليوتيوب ووسائل التلقي الأخرى تضج بالأعمال المفيدة والعميقة وصرنا نجد محتوى مرئياً على التلفاز لكنه لا يناسب إلا الخاصة من المثقفين
التلفاز واليوتيوب ووسائل التلقي الأخرى تضج بالأعمال المفيدة والعميقة وصرنا نجد محتوى مرئياً على التلفاز لكنه لا يناسب إلا الخاصة من المثقفين
   

يمكن القول إن منتجات الثقافة والمعرفة المتاحة والمفيدة كثيرة غير محدودة، بينما وقتنا وطاقاتنا محدودة، ومهما تغلبت إحدى الوسائل على الأخريات فإنه لا يمكن الاكتفاء بها والاستغناء عن الأخريات، ولعل الحل يكمن في السعي إلى إيجاد مزيج ينظم اكتساب المعرفة والمتعة ويحاول الإفادة من الطرق كلها قدر المستطاع وبما يناسب التجربة الفردية، خاصة أن القراءة التي ارتبطت عبر الوقت بالثقافة العليا، ولم تحو إلا الثمين العميق من الأعمال، فاقتصرت على فئة محددة يتداولونها في معزل عن باقي الناس الذين اقتصرت أشكال اكتساب الثقافة والترفيه عندهم بالاستماع إلى الخطب والأحاديث ومشاهدة المسرحيات أحياناً والتلفاز وغيرها من الأشكال الشعبية، فكان المجتمع يتطور ويتفاعل في خطين واحد علويّ عبر الكتابة، والآخر شعبي عبر أشكال الثقافة الشعبية المتعددة.

 

أما في عصر العولمة وما بعد الحداثة لم يعد الحد الفاصل واضحاً بين هذين الخطين، فالمكتبات تضج بالكتب الفارغة التافهة وبعضها أكثر مبيعاً من كتب الفكر والفلسفة، وبالمثل، فالتلفاز واليوتيوب ووسائل التلقي الأخرى تضج بالأعمال المفيدة والعميقة وصرنا نجد محتوى مرئياً على التلفاز لكنه لا يناسب إلا الخاصة من المثقفين، وبهذا غدت كل الأشكال تغطي وتكمل وتتفاعل مع بعضها، وصارت الثقافة تنتقل بشكلها الحقيقي للناس عبر أشكال الثقافة الشعبية بلغة وأسلوب مناسبين، والخرافات والمواد التافهة تنتقل كما هي للناس على هيئة كتب وبلسان مدعين للفكر والأدب.

نعم روايات هاري پوتر أجمل وأرقى من الأفلام – على رقيها وجمالها -، والكتب أكثر عمقاً وفائدة (غالباً) من المحاضرات والأفلام الوثائقية، لكن لا بأس من مشاهدة الأفلام المبنية على روايات مميزة الحبكة، وقراءة الروايات ممتعة الأسلوب واللغة، وقراءة الكتب في مواضيع التخصص والاهتمام، والاكتفاء بالمحاضرات والوثائقيات في المواضيع الأخرى أحياناً، وهكذا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.