شعار قسم مدونات

أمي.. الجيش الذي لا يكسر

BLOGS أم وأولاد

أذكر قديماً حينما كنت طفلةً بعُمرِ الوردِ كيف كانت أُمّي ترى الراحة والرفاهية -لم تكن الحياة بتلك الراحة التي نراها الآن- لم تكُنِ الحياةُ عالماً ورديًّا كالذي نراه ونتذمَّرُ من إحباطه وتعبه وإنهاكه للروح والجسد، لم تكُن الحياة تُوفِّر لهم أدنى مستوىً من الراحة، فلم يكُن لدَيْها حتى غسّالة لتُنظِّف بها ملابسنا، رغم كُلِّ ذاك أذكرُها مبتسمةً راضيةً مستبشرةً بأيَّامِها، تحيى سعادة برؤيتها الخاصة، أو لنقل برؤية كل من عاش في ذاك الوقت كهطول المطر مثلا رغم مرارة الحياة بوجوده إٕلا أنه كان يسبب لها سعادة عظيمة، تحفر بالصَّخْر لتُنشئَ جيلًا قويًّا قادراً على حمْل مسؤوليَّاتِه المُتراكِمة، لتُخْرِجَ رِجالًا من صُلْبِها قادرين على فعل التغيير الذي تحلُم به، أذكرُها جيِّدا تستيقِظُ في منتصَفِ ليلِها تدعو الله أن يحفظ لها سلاحَها الوحيد في هذه الحياة، أبناءَها، أذكرها وهي تترنَّم باسم كل واحد فينا لتخُصَّه بدعوة تراها حلماً لكُلٍّ منّا على حدة، أذكُرُها جَيِّدًا وهي تقوم بأعمال الرجال، ولا أذكر أبدًا أنها قالت: آه، أو لأكون أدقّ، كانت ماهرة جدًّا حتى في إخفاء ألمها، أراها تركُض تحت المطر، تقاوم الشمس وحرَّها، تخرج من البيت قبل الفجر لتُتمَّ أعْمالَ الفِلاحة والعمل في الأرض مساعدة لوالدي، ثم تعود لتكمل مُهِمَّاتها المنزلية..

أراها تُدبِّرُ المنزِلَ وتُدير شؤونَه وكأنَّها وزيرةٌ للماليَّةِ في أقوى دولةٍ عالمية، ثُمَّ إذا ما مرض أحدُنا تتحوَّلُ لطبيبٍ ماهرٍ ولرُبّما أفضل حتى، الفرْقُ أنَّ الطبيب يؤدّي مُهِمَّتَه كطبيب، أمّا هي تُمارس أمومَتَها بكثيرٍ من الحنان والحُبّ. ثم إذا ما مسَّ الخوفُ أحدَنا تحوَّلت إلى كُتلةٍ من الحنان تمسَحُ على قلبِ صغيرِها الخائفِ لتطرُد الخوف إلى مكانٍ بعيدٍ لا أعرفُ حتى الآن أين هو، والذي ربما يكون قلبها! ترى حضنها يتَّسِعُ لكُلِّ الكون؛ فهو حضن أم، أذكرها وهي تحرم نفسها أي شيء يُحبُّه ابنُها، فنحنَ العيش لولا قلبها.

كبِرَت وكبِرْنا وما زلنا نهرُب إلى حِضنها مع كلِّ صدمةٍ تُصيبُنا في هذه الحياة. بقِيَت هي الجيشَ الصامدَ الثابت، وبتنا نحن المحاربين لأجلها، لنصرتها، لرضاها

أذكر يوم مرض أخي الصغير فأمضت أياماً كثيرة في المشفى، في ذلك اليوم فقط عرفت المعنى الحقيقي للشتات والتشرد، فهمت معنى أن تمضي أيّامُك بلا قلب، بلا حُبّ، بلا جيشٍ يحميك من مصاعب الأيّام المُتلاحِقةِ التي تُحاول إسقاطَكَ أرضاً، وما زالت يدُ أُمِّك تُزيح عنك كل ذاك بقلب قويٍّ صامد، تتّقي الطعنات والخيبات بابتسامة كبيرة لِتُخرجَ أدْنى خوفٍ من قلبك، أنها ليست بخير. 

هي تعي تماما أن ما يؤذيها يؤذينا، هي تعرف تمامَ المعرِفة أنَّ الطِّفلَ يفهم نظَراتِ أُمِّه يعِيها جيِّدًا فيُحاوِلُ أنْ يجعَلها تبتسم ولو ابتسامة خفيفة ليشعر بالأمان، لأن الكون يكون بالنسبة له هو ابتسامة أُمٍّ.. كبِرتُ وما عرفت أنَّها تكبَرُ هي معي، بقيت أظنّ أنّها المرأة الحديدية التي لا تمرض، وأنها الجيشُ الذي لا يُهزَم، رغم أنها بقيت الجيش الذي لا يُهزَم، ولكني كبِرت وعرَفتُ أنَّ الشيءَ الوحيد الذي يُمكن أن يهزِمَها، هي دمعةٌ تراها بعين أحد أبنائها أو مصيبةٌ تحلُّ به، فهذا أعظم ما يكسرها ويؤثر فيها. 

استمرّيت على ظنّي حتى نهش المرض جسدَها، أنهكها وأفسد روحَها المرحة المتينة بشيءٍ من الأنين، استمريت حتى رأيتُها تتجرّعُ أوَّلَ حبّات دوائِها، حينها عرفت أننا كُنّا نأخذ من قُوَّتِها لنقوى، فبِتْنا العكَّازَ الذي تتّكئُ عليه لتقوى، وبِتنا الأمل الذي تنظر من خلاله لهذا العالم كي تستمرَّ في المُواجهة، ولكن الحمل هذه المرة تراكم فوق ظهرها، فهي باتت تُقاتل لأجلنا، ثم تقاتل لأجل بقائها قوية من مرض يأكل جسدها. 

كبِرَت وكبِرنا وقد كبُر الحُبُّ داخلَها، كبُر وكبِرْنا وكبُرَت فرحةٌ تغمُرُ عينَيها بكثير من الدمع لنجاحٍ حلَّ بنا، أو لانتصارٍ من هزيمة كانت مؤكَّدةً لنا. كبِرَت وكبِرْنا، وما خبا صوتُ دعائِها لنا، كبِرَت وكبِرْنا وما صمَتَتْ يومًا عن رِضاها، كبِرَت وكبِرْنا وما زلنا نهرُب إلى حِضنها مع كلِّ صدمةٍ تُصيبُنا في هذه الحياة. بقِيَت هي الجيشَ الصامدَ الثابت، وبتنا نحن المحاربين لأجلها، لنصرتها، لرضاها، نحن المحاربين لخطْف لحظةِ سعادةٍ نراها في أعيُنِها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.