شعار قسم مدونات

هكذا خدم الأستاذ النُورسي القرآن الكريم

blogs - النورسي

لا ريب أن القرآن الكريم هو مصدر قوة الأمة الإسلامية وحياتها الذي عملت القوى الاستعمارية الوحشية على إبعاده وإزاحته من أمامها بشتى الطرق. فهذا الكتاب العظيم هو الذي يقف في وجهها حصنا حصينا وسدا منيعا يحول دون بلوغ حاجتها من الأمة الإسلامية وذلك بما ينشره في روح الأمة من عزائم ونسائم إيمانية وبما يُربي عليه أفرادها من أحكام وتعاليم سليمة وحنيفة تأبى الذل والإهانة وتتطلع للقمة والسيادة.

  

وقد حفظ لنا التاريخ ما يبرهن على صحة هذه النية الغربية العلمانية في السيطرة والتسلط على الأمة الإسلامية ولعل تصريح غلادستون وزير المستعمرات البريطانية في مجلس العموم البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر أوضح مثال على ذلك، فقد أمسك هذا الوزير بنسخة من القرآن الكريم وصاح في النواب "ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلا نستطيع أن نحكمهم لذلك فلا مناص لنا من إزالته من الوجود وقطع صلة المسلمين به". ولكن الله تعالى أبى إلا أن يحفظ كتابه ويتم نوره فقيض لذلك رجالا بذلوا حياتهم في سبيل إعلاء كلمة الإيمان وخدمة القرآن ومن بينهم الأستاذ الجليل بديع الزمان سعيد النورسي.

 

يعتبر الأستاذ سعيد النورسي من أبرز العلماء الأتراك الذي شُهد له بالنبوغ وسعة العلم مع حلم وأدب جم وقد بقيت مؤلفاته المتمثلة في رسائل النور خير شاهد على ذلك. ولست هنا بصدد التعريف بالأستاذ فهو أشهر من نار على علم ولكن يمكن مراجعة التدوينة السابقة للوقوف أكثر على سيرته رحمة الله عليه. لقد كانت حياة الأستاذ النورسي حافلة بالأحداث والوقائع فقد شهد رحمه الله الأيام الأخيرة لسقوط الدولة العثمانية وما انجر عنها من انقلابات طالت الإسلام والمسلمين وهذا شأن كل الرجال الذين نذروا حياتهم للدفاع عن الإسلام والقرآن ضد فتن وشبهات الملحدين والحاقدين وقد زاد من عزيمته المتوقدة سماع كلام رئيس الوزراء البريطاني الآنف الذكر فوقف وقفة الفارس الهمام وقال بأعلى صوته "لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها".

 

من مظاهر خدمة الأستاذ النورسي للقرآن إبراز قوة إعجازه البياني فقد ألف الأستاذ في ذلك إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز عالج فيها سورة الفاتحة وبعض الآيات من سورة البقرة
ولكن كيف خدم الأستاذ النورسي القرآن الكريم؟

لم يرض الأستاذ النورسي بما آلت أليه حال شعبه بعد إلغاء الخلافة العثمانية وكسر رمزيتها في وجدانه الإسلامي المقهور يومئذ من جراء منع من كل مظاهر التدين والإيمان والتهجم على القرآن ووصمه بالتاريخية وغيرها من الشبه المتهافتة وفتح الأبواب على مصرعيها أمام الفلسفات الإلحادية ودعم كل أشكال واللهو والمجون لينتشر الجهل فتخر العزائم ويحصل للظالم مطلبه. لقد انتبه النورسي إلى أن إيمان إخوانه يشتعل ولا بد من إنقاذه ولا سبيل أنجع وأنجح في ذلك من سبيل القرآن لذلك جعل هذا الأستاذ القرآن الكريم نبراسا يستضيئ به في طريق الإصلاح ومصدره الأساس في التحرك وملهمه الفياض للعمل الإيجابي البناء فكانت رسائل النور هدية القرآن إلى هذا الرجل المخلص الذي يصرح بذلك فيقول" إن هذه الحقائق والمزايا الموجودة في الكلمات ليست من بنات أفكاري ولا تعود إلي أبدا وإنما للقرآن وحده فلقد ترشحت من زلال القرآن".

 

نعم لقد استحق الأستاذ النورسي تلك الهدية النفيسة بما بذله من اهتمام بالغ بالقرآن وآياته الحكيمة في كشف مقاصده وأحكامه وإبراز حقائقه وتعليمها لشعبه فالقرآن عند الأستاذ النورسي لا يمكن الاستغناء عنه لأنه "قوت وغذاء للقلوب وقوة وغناء للعقول وماء وضياء للأرواح ودواء وشفاء للنفوس… مثاله الخبز الذي نأكله يوميا".  لقد أدرك الأستاذ النورسي أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويقدر على كسب التحدي أمام شبهات الملحدين بما تضمنه من قوة إعجازية كبيرة بل إن القرآن الكريم هو بحر المعجزات "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا"

 

وقد انطلق الأستاذ النورسي من هذه الآية الكريمة في الإجابة عن سؤال القرآن ما هو؟ وما تعريفه؟ الذي طرحه في كلمته الخامسة والعشرون والموسومة برسالة المعجزات القرآنية متوصلا إلى أن حقائق القرآن وأنواره أعلى من أن تطالها يد الشبهات والتشكيكات لأن القرآن يزخر بمعارف وحقائق لا حصر لها فكأنه البحر الذي لا ينضب بل "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"

 

ومن مظاهر خدمة الأستاذ النورسي للقرآن إبراز قوة إعجازه البياني فقد ألف الأستاذ في ذلك إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز عالج فيها سورة الفاتحة وبعض الآيات من سورة البقرة تفسيرا بديعا معتبرا أن "بيان القرآن سلس ينساب كالسلسبيل ولذيذ كثمار الجنة وجميل كحلل الحور العين" وذلك لأن "الألفاظ القرآنية قد وضعت وضع بحيث ان لكل كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكوت أحيانا وجوها كثيرة جدا تمنح كل مخاطب حظه ونصيبه من أبواب مختلفة" على حد تعبير الأستاذ.

 

ولهذا لا غرابة أن يكون هذا القرآن "المعجز البيان قد جمع أنواع البلاغة وجميع أنواع أقسام فضائل الكلام وجميع أصناف الأساليب العالية وجميع خلاصات العلوم الكونية وجميع فهارس العلوم الإلهية وجميع الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية وجميع القوانين النورانية السامية". ولكن الغريب أن نرى اليوم ونسمع ممن يحسبون على المسلمين من يرد أحكام القرآن المبين ويتجرأ على أحكام الميراث بدعوى عدم مواكبة هذه الأحكام لمتطلبات العصر.

 

ولعل التاريخ يعيد نفسه فقد أثيرت مثل هذه المسألة وغيرها مما يهدف إلى ضرب الأسرة المسلمة بعد سقوط العثمانية ولكن سرعان ما انبرى الشيخ النورسي يعلم الأمة وينبهها بأن هذا "القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نظرا فتيا" ومؤكدا في ذات الوقت على أن "آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم وتتبدل إلا أن أحكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور".

 

القرآن الكريم لا ينشئ إنسانا ممسوخا متطرفا وإرهابيا متشددا تتقاذفه الأهواء بل إن هذا الكتاب العظيم هو الضامن الوحيد لنجاته من كل هذه المصائب والآفات وهو الذي يربيه على القيم السامية

لقد رد الأستاذ النورسي هذه الشبهة حول القرآن معتبرا أن هذا الكتاب الحكيم صالح ومصلح لكل زمان "فحقائق القرآن تتوضح أكثر كلما مضى الزمان… لأنها نصوص قاطعة وأسس وأركان لا بد من الإيمان بها" فلا يمكن رد أحكامه وقوانينه بدعوى انتهاء صلاحيتها لأن هذا القرآن كما يقول الأستاذ "معجزة دائمة وأبدية بالمشاهدة والبداهة فهو يبين إعجازه كل حين فلا يخبو نوره كبقية المعجزات ولا ينتهي وقته بل يمتد زمنه إلى الأبد".

 

ولم تقتصر جهود الأستاذ بديع الزمان في خدمة القرآن على إظهار إعجازه وحقيقة مواكبته لكل عصر فحسب وإنما يبين لنا أيضا مدى أهمية القرآن الكريم ودوره الفعال في بناء مدنية قرآنية شرعية تستند إلى الحق لتحقيق العدالة والتوازن وتهدف إلى الفضيلة والتي من شأنها المودة والتجاذب وتتخذ من التعاون دستورا لها في الحياة وتتبع سبيل الهدى للارتفاع بالإنسان روحيا إلى مراقي الكمالات.

 

ولذلك يدعوا الأستاذ إلى التمسك بالقرآن والعمل بأحكامه وتعاليمه وعدم ردها وتبديلها لأن التفريط فيه يعني أننا سنتلظى بنار مدنية حاضرة كما يسميها النورسي تكون نقطة استنادها القوة وما ينتج عنها من التجاوز والاعتداء وتهدف إلى المنفعة التي من شانها التزاحم وتبني دستورها على أساس الجدال والصراع وهو ما يخلف التنازع وتسلك بنا طريق الهوى فتشجع على تلبية رغبات النفس الامارة وهو ما يهوي بالإنسان ويمسخه مسخا معنويا.

 

نعم إن القرآن الكريم لا ينشئ إنسانا ممسوخا متطرفا وإرهابيا متشددا تتقاذفه الأهواء بل إن هذا الكتاب العظيم هو الضامن الوحيد لنجاته من كل هذه المصائب والآفات وهو الذي يربيه على القيم السامية وينبهه إلى أمراض النفس ويرشده إلى أدوية علاجها ويحثه على إنشاء حياة شخصية واجتماعية سليمة تسودها الأخوة والمحبة والتعاون تمثلا لقوله تعالى "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" وقوله تعالى "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"

 

وفي نهاية المطاف ها أننا نقف على بعض الجهود ولا أقول كلها لعالم من العلماء الربانيين الذين قدموا حياتهم في خدمة القرآن الكريم والدفاع عنه بإخلاص كبير ولسان حالهم يقول "إن هذا القرآن حصن سماوي حصين في الأرض لا يقوى على خرقه خارق ولا ينفذ من جداره نافذ" لذلك لا يسعني في الختام إلا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الأستاذ سعيد النورسي برحمته وأن يجازه عن الإسلام وأهله خير الجزاء وأوفى الثواب راجيا من المولى أن يقيض لهذه الأمة رجالا يتمثلون طريقه رحمه الله وإخلاصه في خدمة القرآن والإيمان والإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.