شعار قسم مدونات

دفترُ عُزُوبِيَّة

blogs زواج

أكثرُ المسائل في حياتي إثارة للمتاعب هي مسألة العادات والتقاليد، أنا لا أحب التقيد بقيد ولا الالتزام بما سارتْ عليه سنة الناس، ليس لأنهم ليسوا على حق، وليس لأنني على حق، فالأمرُ يحتملُ الشيء ونقيضه، وليس هذا موطن الصراع، إنَّما هو التقليد الممل والتكرار المُضجر، ولكنني لستُ بذلك أجنحُ للتمرِّد على الدوام، فأحاول الموازنة بين متطلبات المجتمع، ومتطلبات روحي وجسدي، أي أنني أحاول أنْ أكون وسطًا ما استطعتُ لذلكَ سبيلًا، ولكنني في حقيقة الأمر لا أحبُّ نسقَ الأفراح الدارجِ في عاداتنا، ولستُ من هواة الطرب الشعبي أو الحداء ولا ممنْ يتتبعُ أثرهم أو يتقفَّى شعرَهم، أو ممنْ يقبلُ أن يهتزَّ فيه شيءٌ مع أنغام موسيقاهم وبالكاد أصفق، فيكفيني أن يكون موضع الفرح القلبُ وأن ترتسم على وجهي ابتسامة ويلهج لساني بالتبريك والدعاء، ولكن تلك الأهزوجة لامستْ مسمعي وعَلِقتْ في خلجي فلم أنسَها قط، كان يرددها الشباب في أحد الأعراس مبتهجين لذلك العروس حين ودَّع عزوبيتَه منشدين: "شَطْبّناكْ يا عَريس منْ دفتر العْزُوبيّة".

 

ولأنني أهوى اللغة العربية وأحبُّ سبرَ أغوارِها استوقفني الفعلُ شَطَبَ، وهو فعلٌ له وقعٌ في اللفظ قويٌّ في وسطه حرفُ استعلاء وفي بدايته حرفُ التفشي وفي نهايته حرف شديد مجهور، وما معناه بالبعيدِ عن صفات حروفه، فهو يعني: الحذفَ والإبطالَ والميلَ والعدولَ والإلغاء والطمس، فدار في نفسي أيعقلُ أن العزوبة كانتْ ثقيلةً لهذه الدرجة حتى صار الزواجُ نجاةً بعدَ هلاك، وفرجًا بعدَ عسر، وضيقًا دون يسر؟! وكأن تلك الأهزوجة انتقامٌ طال عليه الأجل وحال عليه الحولُ فكانتْ زكاة انتظار سنواتٍ مضتْ، والعجيبُ أنَّ شبابًا عُزَّابًا -مثلي- منْ يغنونها وقلوبهم تمتلئُ بها بهجةً وسرورًا، ولكنْ يسقطُ العجبُ عندما أرى المنظومة المجتمعية وما وجدنا عليه آباءنا ومناقب الزواج في ديننا -الإسلام- فأخفضُ من لومي وأردُّ سيفَ عجبي إلى غمده، وأكتفي بأنْ أكون كعادتي متمرِّدًا دونَ تفريطٍ أو إفراط، فلم أقنعْ بعدُ بأنَّ الزواج مصيرٌ محتوم وقدرٌ لا مفرَّ منه، فما زلتُ عندَ اعتقادي وإيماني بأنَّ تحقيق النفس وسبر غور الذاتِ وإدراك شغفِ النفسِ قد سبقَ عندي فصارا لزامًا وصار الزواجُ أجلًا مُسَمًّى.

 

مجتمعاتنا اليوم بحاجة لشباب مستقرين نفسيا وعاطفيا وقادرين على أعباء الزوجية متجاوزين بذلك الإطار التقليدي المحدود بالإنفاق والإنجاب وقضاء الشهوة

إنني أدركُ جيدًا الحضَّ على الزواجِ في ديننا -الإسلام- كما أدركُ أنَّ هذا الحضَّ مقترنٌ بعواملَ كثيرة: كحفظ الفرج والعِفَّة، والتمتع بما أحلَّ الله، وأنَّه السبيلُ الوحيدُ لحفظ النوعِ البشري، ولكنني لم أقفْ يومًا عندَ طرفٍ واحِدٍ، ولا أحبُّ العِلم والمعرفةَ آحادًا، وهنا أستحضرُ أمرًا يخطرُ في بالي وأراهُ دليلًا قويًّا على تلك الرغبة في داخلي بالتوسُّع في قضية فهم المضمون الداعي للزواج وظروفه ومآلاته، فلو نظرنا للمذاهب الأربعة التي فصلتْ في الفقه الإسلامي وتحدثت عنه بشروح كثيرة، وتعرضتْ لمسائل قد استجدتْ وبنتْ أحكامًا على أقوال وأفعال، رغم أنَّ الفترة الزمنية الفاصلة عن عصر الصحابة والتابعين ليستْ بالبعيدة لو قارناها بزماننا نحن اليوم، فالعلاقة طردية لا محالة! والاستطراد والتوسع لا بدَّ أنْ يكون أكبر وأكثر شمولًا، لأنَّ الفقه يجيب عن تساؤلات الواقع ويأخذ بعين الاعتبار ما استجدَّ من الظروف وما تبَّدل لتبقى آلة الإجابة فاعلة قادرة على المواكبة لأنَّ الفقه منبعه قرآن وسنة وهما لا يتصفان بالعجزِ أو القصور ولكنَّ العجزَ أو القصور يحدثان في العقولِ والأفهام كما يحدثانِ في الأبدان.

 

فبذلك بنيتُ فهمي بعلاقة طردية مع الامتلاء بالتفاصيل كلٌّ حسب زمانه ومكانه، ومع التعداد السكاني لذلك الوقت ولهذا الوقت الذي نعيشه، ومع الحاجة للتكاثر في تلك الحقبة، ومع ما نعيشه من عجز وفقر وفاقة بتكاليف معيشية باهظة على مستويات شتى، فهنا لو أردتُ الالتزام بفهم ظاهري للنصوص التي تحض على الزواج دون إدراك المحيط والظروف التي حفتها لوقعتُ في القصور والعجز عن الربط بينَ نصٍّ يبدو في ظاهره أنَّ أهمَّ الواجبات في حياة الشبابِ هو الزواج، حتى يقطع الطريق على المعاصي وعلى الفتنِ، ولكنَّ الواقعَ وتحديدًا واقعنا يُنْبِئُ عن نفسِه، فالزواجُ في زماننا لمْ يعُدْ كفيلًا حقيقيًّا لكبحِ جماحِ الشهوةِ، ولم يعدْ ضامنًا للغضِّ من البصرِ، لأنَّ الفهم الظاهري يصنعُ هذه الهوَّة وقدْ يجعلُها في درجة القداسة حتى تصير سنة مؤكدة لا يحيدُ عنها إلا زائغ، نعم، هذا ما يحدثُ حينما نغضُّ الطرفَ عنْ شمولية الدين وترابط أطرافه، فلا يكفي أن نتحدثَ عن مناقب الزواج ونهمل الإمعان في ظروفه ومتطلباته ومآلاته المرتبطة أصلا بعوامل أخرى.

 

فالتوازن مطلوبٌ وعلى ذلك يدلِّلُ النصُّ القرآني بوضوح: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فنرى الحضَّ هنا صريحٌ ومحمودٌ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الزواجَ سبيلٌ لحفظِ الصلاحِ، وأما الفقرُ فالله هو الرازق وفي الزواج غنًى واستغناء، غنًى للنفسِ واستغناءً عن الفاحشة، فقد يقولُ قائلٌ هنا أنَّ هذه الآية كفيلةٌ بوضع الزواج في مربع القداسة، ولكنَّ الآية المتممة التالية تثبتُ حالة التوازن بلا ريب أو شكٍّ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ }، وعلى اختلاف عدم القدرةِ على النكاح أو عدمِ الرغبةِ به طلبًا لأمرٍ ما يفوقه مرتبةً كانت العفةُ لزامًا وواجبًا، وفي هذا دليل واضح على أنَّ الزواج قد يصيرُ ثانويًّا حسب الظرفِ والحالة وما قدْ يمنعُه أو يشغلُ عنه، فلا تُذمُّ العزوبية ولا تُعاب وليستْ إعاقةً كما تداولتها مواقع التواصل، كما أنَّ منظمة الصحة العالمية قامتْ بنفي التصريحات المنسوبة لها، وهنا نؤكد على الحالة السليمة علميا وشرعيا للعزاب بعيدًا عن الآراء المتشددة حول ذلك.

 

وتستمرُّ حالةُ التوازنِ في سريانها في المجرى القرآني بشاكلة واضحة، فيشيعُ حديثٌ صحيحٌ متفقٌ عليه: [يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ]، ولا ريبَ هنا كذلك أنَّ الحثَّ واضحٌ ولكنَّه مقرونٌ كذلكَ بصفاتٍ منها الأهلية والقدرةُ على النفقة ويشملُ كذلك احتياجات الزواج جميعها، وخصوصًا أنَّ الحديث للشباب والقدرةُ لذلك متعلقةٌ بظروف الشبابِ وطموحاتِ الشباب وسعيهم وأهدافهم، ولم يغفلِ القرآن عن ذكرِ ما للزواج وما عليه متمما ومثبتا لدعائم التوازن فجاء في محكم التنزيل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، وجاء أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ }، فلا يعفي الزواجُ الشخصَ من فتنةٍ تحلُّ به، ولكنَّه يخففُ من احتمالية وقوعها، لكنَّها قد تقعُ فيه وبه، وبذلك نرى أنَّ النكاح مرهون بظروف ومطلوب فيه تحقيق الاستقرار النفسي والرغبة والهدف، وليس مذمومًا تركُه إن كان لمصلحة معتبرة كعلمٍ نافعٍ وطموحٍ رافع وجلبِ استقرارٍ ماديٍّ يضمنُ حياة مستقرة متوازنة، بعيدًا عن ترغيب مبالغ به وإلحاحٍ مجتمعي أو مطلبٍ أبويٍّ أوْ أُسريٍّ.

 

إنَّني في النهايةِ لستُ أدعو لتركِ الزواجِ أو التقليل من شأنِه أو الحطِّ منْ قدره، فهو وحدة البناءِ في المجتمع الإسلامي، وهو سبيلٌ للتعفُّف، وحصنٌ من غوائل العزوبة الرابضة على شفا الشهوة الهائمة على وجهها، ولكنَّ العزوبة لهدف نبيل ولضمان استقرار طويل الأمد هي أمرٌ محمود، فلا تذمُّ ولا تعاب، فنجدُ مؤلفًا عنوانه: "العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج"، وإنَّ مجتمعاتنا اليوم بحاجة لشباب مستقرين نفسيا وعاطفيا وقادرين على أعباء الزوجية متجاوزين بذلك الإطار التقليدي المحدود بالإنفاق والإنجاب وقضاء الشهوة، فالزواج مشروع عظيم وفيه تبنى أفراد الأمة الإسلامية وعليه ينعقدُ الأملُ في تغيير الواقع، ولأجل ذلك كان لا بد أن يُنظرَ فيه بعيدًا عن الإملاءات الموضوعة في قوالب معدة وبعيدًا عن كون العزوبة سجلا مصيره أن يُشطَب. والأبلغُ من ذلك كله أنْ كلما بحثنا وفتشنا ونظرنا من زوايا مختلفة سنجد أنَّ هذا الدين وسطيٌّ حتى النخاع، ومتوازنٌ، لا إفراطَ ولا تفريط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.