شعار قسم مدونات

قبل تحريم "الحرقة" حرّموا أسبابها

BLOGS قوارب الموت

لست ممن تستهويه الهجرة على قوارب الموت، ولا من دعاتها ولكن أريد أن أنبّه إلى أمر أراه مهما حتى نتفهّم الوضع دون مزايدات، فمنطق التحليل والتحريم في الخطاب الإسلامي المعاصر غالبا ما يخضع إلى منطق التجزيء المقيت وكأنه يخاطب الناس من علو ليملي عليهم ما يفعلون وما لا يفعلون بعيدا عن الواقع، وهذا ما نلحظه في كثير من الفتاوى على وسائل الإعلام، وأريد أن أوضح ابتداء أنني لا أبتغي من هذا الكلام الخوض في غمار الإفتاء لأن هذا مجال له أهله القائمون عليه، ولكنني أريد أن أبدي وجهة نظري في قضية تحريم الهجرة غير الشرعية، وأن المشكل فيها أعظم وأخطر من أن نحرّمها دون تشخيص الأسباب المؤدية إليها قصد الوقوف على مسبباتها.

 

ومن باب فقه الأولويات فإن تحريمها يتطلب أولا إصدار فتاوى ناصحة وآمرة وناهية عن كل ما من شأنه أن يدفع بالشباب والكهول على اختلاف الأعمار إلى وجهة يطلبون فيها حياة أفضل ولا يهمهم في ذلك نسبة النجاح والفشل، ففرارهم من الوطن ليس نتيجة نقص في حبه فهم أكثر وطنية ممن يحكم باسمهم ويغريهم بالوعود الكاذبة، وفي ذات الوقت يقضي عطله ويعلّم أبناءه ويبحث عن إقامة دائمة في ذات الوطن الذي يمنعهم من الهجرة إليه، إن إلقاء النفس في وطن بواقع مرير ومستقبل مجهول لا يعلم الإنسان فيه مآله في غده القريب والبعيد أشبه إلى حد كبير بإلقاء النفس في أمواج بحر على ذات ألواح ودسر، فالحال لن يختلف كثيرا في نظر المهاجرين على قوارب الموت خاصة عند ضياع البوصلة نتيجة الظروف الاجتماعية قاهرة.

إن الوطن الذي لا يضمن للمواطن كرامة ليس في نظر أبنائه إلا سجنا كبيرا يتجوّلون في ساحته، وإن جواز السفر الذي لا يسمح لك إلا بالسفر إلا بلد أسوأ حالا من بلدك لا يمكن أن يكون في نظر الكثيرين إلا وثيقة حكم بالسجن في هذا البلد، وإن صرخات الملاعب التي تحمل آهات وهتافات ناقمة على الحياة والمعيشة ليست إلا أصوات تأوّه وتألّم من سياط الظلم والطبقية التي تعذّب الأرواح قبل الأجساد.

 

قبل أن تحرّموا الهجرة حرّموا الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله من الاستبداد بالفكري إلى الاستبداد السياسي، فكيف يطيب المقام بوطن ترتفع فيه أسماء الفخامة والولاية لمن لا فخامة له ولا ولاية له

قد يبدو أن هذا الكلام فيه الكثير من التشاؤم والتحامل وخيبات الأمل ولكن هذا ما تستشعره وأنت تخاطب من يتقحّم ركوب قوارب الموت في سواحل عالمنا العربي ليعبر إلى الضفة الأخرى من المتوسط، هذا البحر الساحر الذي لم ير "الحراق" في زرقتة الساحرة التي تجلب السواح إلا أطلال طريق توصلهم إلى الضفّة الأخرى هي الملاذ الأخير لما تبقّى من بقايا إنسان كل أمله ألا يخسر حياته في عرض البحر ليبحث عن فرصة أخرى للحياة في واقع يراه أفضل في تصوّره البسيط بساطة المركب الذي يقلّه.

الهجرة في نظرهم أمل وليست انتحارا:

أي انتحار أكبر من أن ترى زهرة شبابك تسرق منك وأنت لم تقف بعد على قدميك، لم تؤسس أسرة، لم تحصّل وظيفة، لم تستطع أن ترد جميل والديك اللذان ربياك صغيرا، فعلى الرغم من أنهما لم يطلبا منك ردّا للجميل ولكنك تحس أن ذلك سيسعدهما حتى ولو لم يطلباه منك، خاصة وأنك ترى تقاسيم أبيك قد أرهقته سنوات العمل في وظيفة زهيدة الأجر كثيرة الأخطار والمشقّة، تتفحّص وجهه وقد تشققت بشرته من كثرة الإجهاد والعمل تماما كما تتشقق الأرض التي أنهكتها كثرة الزراعة والحرث لتستحيل في خريف عمرها إلى أرض جرداء.

 

وأنت ترى أمك تثاقلت خطاها وأنهكت الأمراض المزمنة قواها وهي تتنقّل بين مستشفيات مجّانية سيّئة الخدمة لتتحمل مشقة الوقوف في طوابير الانتظار، كل ذلك لأن ميزانية البيت لا تتحمّل مصاريف زائدة، خاصة وأنها تفكّر في البحث عن مخطوبة تراعي سوء حالتك المادية وتعيش معك على أمل تحسّن الأوضاع لأن الله هو الرزاق رغم أنوف كل من تسببوا في فقرنا ومعاناتنا.

حرّموا الظلم قبل أن تحرّموا الهجرة:

علموا صنّأع القرار في عالمنا العربي أن الظلم مؤذن بخراب العمران، وأن الله عز وجل ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة ويهلك الدولة الظالمة حتى لو كانت مسلمة لأن سنن الله عز وجل لا تحابي أحدا، وأن الظلم السائد في عالمنا الإسلامي هو من ألجأ المهاجرين إلى القوارب خشية أن يصل بهم الحال إلى إضرام نار في أجسادهم، ومخافة أن تخلّف هذه النار دخّان غضب كما حدث مع البوعزيزي في ذات السابع عشر من ديسمبر 2010 لا بد من الفرار لأن نار الغضب إذا اشتعلت داخل الجسد فإن عود الثقاب ولتر البنزين لن يشعل في حقيقة الأمر إلا خارج الجسد، خاصة وأنهم يرون أبناء المسؤولين ومن تسلّطوا على رقابنا بغير وجه حق يتنعمون في خيرات قالوا عنها أنها ملك للشعب باسم الثورة والديمقراطية، ولكن ديمقراطياتهم غالبا ما كانت تسفر عن وجهها لتتبدّى على أنها ديكتاتورية بقناع ديمقراطي في حفلة تنكرية يتفنون فيها في السطو على مقدّرات الشعوب وخدمة أغراض المستعمر الذي لا يزال يرى في عالمنا الإسلامي فردوسه المفقود الذي يحقق على حسابه نهضته وتقدّمه.

في أوطاننا يمارس السلطان وحاشيته دور الوصاية على الشباب زاعمين أنهم أمل البلد، لكن الشباب بطبعهم لا يفهمون كلمة
في أوطاننا يمارس السلطان وحاشيته دور الوصاية على الشباب زاعمين أنهم أمل البلد، لكن الشباب بطبعهم لا يفهمون كلمة "أمل البلد" لأنهم لم يستشعروا يوما هذا الأمل المزعوم
 
كفاكم تبريرا للاستبداد:

قبل أن تحرّموا الهجرة حرّموا الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله من الاستبداد بالفكري إلى الاستبداد السياسي، فكيف يطيب المقام بوطن ترتفع فيه أسماء الفخامة والولاية لمن لا فخامة له ولا ولاية له، كتوصيف الشاعر:


مما يزهدني في أرض أندلـس… أســماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها…. كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد

نريد أن نرى فخامتكم في تحسّن أوضاعنا ورغد عيشنا فتزدادون فخامة في أعيننا، ونريد أن نرى ولايتكم في سمو أوطاننا واقتصادنا، لأن رايات شعارات الزائفة قد احترقت مع من أضرموا النيران في أجسادهم فانطفأت بعد حين من الزمن ولكنها ما فتئت تضرم نار الغضب في شعوب المنطقة.

كيف يطيب المقام في وطن يقف فيه الأوصياء على الدين موقف المبرر لكل ما يفعله السلطان المستبد؟ حتى لو زنى وسرق وسفك الدماء على شاشات التلفاز -بتوصيف أحدهم-، ونحن نرى الحاكم فيما وراء البحار يؤدّي مهامه كخادم للوطن لا كمدع للربوبية لا ينازع في حكمه.

الكذب حرام.. كفاكم تغنيا بحب الشباب:

في أوطاننا يمارس السلطان وحاشيته دور الوصاية على الشباب زاعمين أنهم أمل البلد، لكن الشباب بطبعهم لا يفهمون كلمة "أمل البلد" لأنهم لم يستشعروا يوما هذا الأمل المزعوم، فحالهم كحال من يوصف له طعم السكّر دون أن يتذوّق حلاوته، في وقت نرى شبابا في أعلى المناصب وراء البحار يصنعون قرارا ويديرون دولا ويقررون في مصير العالم أجمع، فكيف لنا أن نصدّق هذه الوعود التي يكذّبها الواقع؟

يبدو أن خطاب التحريم يقفز إلى تحريم النتائج قبل تحريم المقدّمات والمسببات، ليس لعدم فهم أو وعي بطبيعة المشكل، وإنما نتيجة كونه يتعاطى مع واقع استبدادي يقمع الأفكار ويحاول على الدوام تكريس الخطاب الواجباتي (واجب المواطن تجاه الوطن – تجاه الحاكم – تجاه المجتمع …) ويتعامى عمدا عن الخطاب الحقوقي (حق الحياة الكريمة – حق الحرية – حق الأمن…).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.