شعار قسم مدونات

كيف نظر عبد الرحمن منيف إلى الرواية؟

BLOGS منيف

كثيرا ما سئل عن أي وطن ينتمي له، فكان جوابه في كل مرة أنا أنتمي إلى الوطن العربي، لا أنتمي إلى قطعة جغرافية صغيرة، أنا إبن هذا الوطن الكبير، وفي اعتقادي لو سئل عن شغفه الأول والأخير لقال بدون تردد إنه الرواية، حقيقة مجرد معرفتك أن كبار المفكرين كرسوا حياتهم لهذا الفن الروائي يجعلك تتساءل هل حقا وجدوا في هذا الفن مبتغاهم، ما السر يا تر الذي وجده منيف وغيره في الرواية ليستعيض بها عن كل نشاطاته الفكرية، والسياسية؟ بدون شك ما كان يراه مفكر بحجم منيف غير ما نراه نحن اليوم، أو ليس هو الغرض الذي نقبل من أجله على هذا الفن الأدبي…. الرواية.

عبد الرحمن منيف، حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد، مارس العمل الحزبي السياسي، في عدة بلدان عربية، كما عمل في الصحافة والنقد، لكن الأمر الذي كرس له حياته تقريبا، خاصة بعد اعتزاله النشاط السياسي هو الرواية، وهي التي استطاع أن يكتب فيها أعمالا بحجم مدن الملح والتي تعد ربما وحيدة بداك الحجم في الوطن العربي، صحيح قد يُعتقد أنه اعتزل السياسة من خلال اعتزاله للعمل الحزبي، لكن من يقرأ أعماله يدرك جيدا أنه على العكس لم يعتزل السياسة بل ربما أدرك الجانب المفيد لممارستها إنها الرواية، كيف يا تر كان يرى عبد الرحمن منيف الرواية؟ أو ما هي هموم الرواية التي كان يرى أن الأجدر بالروائي مراعاتها؟

الرواية ليست مجرد تسلية، أو قصة غرامية فإذا كان الإعلام يضع الغشاوة على العيون والقلوب حتى لا يرى الناس أحوالهم، فالرواية هي السبيل لإزالة تلك الغشاوة

في محاضرة له مطبوعة في كتابه الكاتب والمنفى، عدد مجموعة من العناصر التي يجب على الروائي الاشتعال عليها، لكن قبل ذلك يذكر لمحة بسيطة عن تاريخ الرواية مع الرواد الأوائل، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ويرى أن الرواية وقتها كانت تعاني من آفتان، كانت بالنسبة للشكل واقعة تحت تأثير لغة المقامات الغارقة في المظاهر البديعية من سجع وطباق وغير ذلك، وأما من حيث المضمون فكانت متأثرة ببعض الأعمال المترجمة ترجمة رديئة وبحسب ما يخدم مزاج المترجم الذي كان يزيد وينقص من النص بحسب ما يتوافق ما اقتناعاته، ويقصد بذلك أن النص كان يُغيِّب الواقع، أو خاليا من المحلية. 

لكن تدريجيا وبالضبط تقريبا مع زينب لهيكل، بدأت على الأقل الرواية تأخذ شكل الرواية الغربية، لتصل بعد ذلك إلى مرحلة النضج مع محفوظ، وبذلك فالرواية العربية أصبحت بمثابة مرآة الشعوب، أو هي ديوان العرب الحديث، الرواية بحسب منيف هي الوحيدة القادرة على استنطاق وضع الشعوب، وهي التي تمتلك الأدوات اللازمة التي من خلالها تصور لنا حياة الناس المقهورين المضطهدين، هي التي تستطيع أن تكشف لنا أحلام وطموحات الناس، وهي التي تستطيع أن تكون بمثابة المرئات لوضعنا، حتى إذا ما نظرنا فيها بدأنا نتساءل هل ساء حقا الوضع إلى هذا الحد، وهنا تبدأ الأسئلة المقلقة والحرجة للساهرين على سلامة وأمن الوضع العام، لتأتي الأجوبة المضطربة والمتلعثمة!، لتقرر بعد ذلك الشعوب هل نطالب بتحسين وضعنا، هل نثور… هل هل…. هذا ما لا يستطيع لا نشاط حزبي ولا ملصق سياسي أن يفعله، بل ولا حتى الدراسة، لأنها تخاطب العقل وحده، كما أن الشعر يخاطب الوجدان وحده أيضا، أما الرواية فهي القادرة على مخاطبتهما معا، إنها نوع من المعرفة الجميلة كما يقول منيف.

أما هموم الرواية العربية حسب تعبيره فهي كالآتي:

الصدق والجرأة

يرى أن هدف الرواية يجب أن يكون الصدق في القول والجرأة في التناول، لأنه إذا كانت الرواية هي مصدر من المصادر المعرفية، فيجب أن تتناول الواقع وتستنطق حاله بدون محاباة أو مداهنة لأي جهة مهما كانت، كما أنه يجب أن لا تكون تلك الجرأة متعمدة وغرضها إبهار الطرف الآخر أي الغرب، بل يجب أن يكون هدفها هو الكشف عن واقعنا، أو كما يعبر عنه في الهم الثاني يجب أن تكون تتميز.. بالمحلية.  أي أن تكشف بيئتنا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، لا أن يكون غرضها التطبيل لجهة ما، أو غرضها إلباس واقعنا حليا أجنبية، المحلية يجب أن تتميز بها الرواية حتى داخل الوطن العربي، فوضع التونسي ليس هو وضع المغربي أو المصري… أو أو…. محفوظ يعتبر النموذج في هذا الجانب.. أنظر كيف استطاع أن يفهم العالم من خلال حارته. 

اللغة

هذه من بين الإشكالات العويصة التي تعانيها الرواية العربية، كانت ولا زالت، فالرواية في الغالب تتخذ طابعا نخبويا، ولغة طبعا لغة أدبية نخبوية، لكن الذي لا يُنتبه له، هو أنك عندما تجري حوارا على لسان شخص أمي وبلغة راقية فأنت هنا تفقد العمل الأدبي المصداقية، لذلك منيف استطاع أن يخلق لغة قربية من المتداول ومع ذلك فهي فصيحة، أي أن المبدع يجب أن يولد لغة جديدة، من الغريب أني هذا الأسبوع قرأت آخر أعمال حسن أوريد فوجدته يستعمل الدارجة والأمازيغية والفرنسية بل وحتى اللهجات المشرقية عندما يستدعي الوضع ذلك!

المحرمات

أو ما يسمى بالطابوهات، الدين، السياسة، الجنس، قد يكون اليوم أصبحت هي التيمات الرئيسة للنصوص السمجة التي أصبحت متداولة، لذلك فالعمل الروائي لم تعد له قيمته، وللتذكير فلحد الآن الطابوهات المطروقة هي الدين والجنس، أما السياسة فلا زالت محفوفة بالمكاره لا يستطيع الاقتراب منها أحد، هذه كانت عوائق لكنها يجب أن تتناول في حدودها وبشكل معقلن، لا أن تطرح على سبيل الابتذال أو الاستفزاز حتى تخرج عن نطاقها، أنظر مثلا موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح. 

التعصب السياسي

كثير من المبدعين لا تُقرأ أعمالهم بسبب التعصب السياسي، إما بسبب أنهم معادون أو موالون لنظام ما، لذلك يتم تهميشهم بداية من إهمال النقاد لهم، ومن ثم الإعلام…حتى يصل الأمر إلى دور النشر والتي لا يهمها سوى الربح، والمتابع لحركة الطبع في الوطن العربي والجوائز المخصصة لذلك، نوع الأعمال الفائزة يدرك جيدا مرامي منيف. 

الترجمة

هذه هي الكارثة الكبرى اليوم خاصة مع الموجة التي تجتاح العالم العربي اليوم عن طريق الروايات العالمية، أنا بدأت أصل إلى يقين أن معظم هذه الأعمال لا نفقه كنهها، فقط نقرأها من أجل التسلي وجمع الجيمات، أغلب هذه الأعمال تترجم من قبل دور ربحية، أما طبيعة الترجمات أقل ما يقال عنها أنها أسوأ من رديئة، بل ربما لا تنقل حتى المعنى السطحي للنص، صحيح هناك ترجمات لعظماء الرواية في المستوى لكنها حبيسة المكتبات، لا ثمنها ولا لغتها ولا مضمونها يسمحان بالتجرأ على قراءتها، لكن مأساة الترجمة التي يقصدها منيف هي في موجة الأفكار التي غزت العالم العربي مع أنه في غنى عنها كالوجودية مثلا فهو يرى أنها اقتناع شخص أكثر منها حاجة موضوعية، وقس على هذا الأمر ما لم يقل كما يقول ابن مالك. 

الرواية ليست مجرد تسلية، أو قصة غرامية كما تعتقد، إنها أعمق من ذلك، فقط يجب أن تختار ما ولمن تقرأ، لا أ تكون مجرد مستهلك، فإذا كان الإعلام يضع الغشاوة على العيون والقلوب حتى لا يرى الناس أحوالهم، فالرواية هي السبيل لإزالة تلك الغشاوة. أبصر فالجهل هو أفيون الشعوب لا الأدب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.